السؤال:
نشأت في العديد من المناطق المحررة محاكم وهيئات شرعية تقوم بأمور الناس، فهل يجوز لهذه المحاكم والهيئات إقامة العقوبات الشرعية من حدود وقصاص؟ وخاصة مع وجود شيء من الانفلات الأمني بسبب ظروف الحرب والثورة؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
أولاً: من المقاصِد العظمى للشريعة: حفظ الضروريات الخمس (الدِّيْن، والنفس، والعقل، والعرض، والمال) التي لا تستقيم حياة الناس إلا بها.
ومما يُحمد لأهل الشام: إقامة المحاكم والهيئات الشرعية في المناطق المحررة، تحكم بشرع الله، وتعمل على إقامة ما أمكن من العدل، ومنع الظلم، ورد الحقوق، ونشر الأمن، والضرب على أيدي العابثين وأهل الفساد والإجرام، كي يسود النظام والاستقرار في المجتمع.
ثانيًا: جعلت الشريعة للجرائم التي تهدد الضروريات الخمس عقوبات، كالقصاص، وحدِّ الرَّدة، والسرقة، وشرب الخمر، والزنا، والقذف، والحرابة، والتَّعزيراتِ بأنواعها؛ رحمةً بالأمة، وردعًا للمجرمين، وحتى يأمن الناس على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يَا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة: 179].
جاء في "الأحكام السلطانية" للماوردي رحمه الله: "والحدودُ زواجرُ وضعها الله تعالى للردع عن ارتكابِ ما حظر، وترك ما أمر به ، لما في الطبع من مغالبة الشهوات المُلهية عن وعيد الآخرة بعاجل اللذة، فجعل الله تعالى من زواجر الحدود ما يردع به ذا الجهالة حذرًا من ألم العقوبة، وخيفةً من نكالِ الفضيحة".
وقال الطاهر ابن عاشور -رحمه الله- في كتابه "مقاصد الشريعة" : "فمقصد الشريعة من تشريع الحدود والقصاص والتعزير ثلاثة أمور: تأديب الجاني، وإرضاء المجني عليه، وزجر المقتدي بالجناة".
ثالثاً: الأصل أنّ إقامة الحدود والقصاص من أعمال الحاكم والسلطان، صاحب الشوكة والقوة، الذي يجتمع عليه الناس ويخضعون له.
قال القرطبي -رحمه الله- في "تفسيره": "لَا خِلَافَ أَنَّ الْقِصَاصَ فِي الْقَتْلِ لا يقيمه إلا أولوا الْأَمْرِ".
وقال أبو إسحاق الشيرازي -رحمه الله- في "المهذب": "لا يقيم الحدود على الأحرار إلا الإمامُ، أو من فوَّض إليه الإمام؛ لأنه لم يُقَم حدٌّ على حر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإذنه، ولا في أيام الخلفاء إلا بإذنهم؛ ولأنه حقٌ لله تعالى يفتقر إلى الاجتهاد، ولا يُؤْمَن في استيفائه الحيفُ، فلم يجز بغير إذن الإمام".
وقال فخر الدين الرازي -رحمه الله- في "تفسيره": "وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِآحَادِ الرَّعِيَّةِ إِقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَى الْجُنَاةِ".
وقال أبو الحسن العدوي المالكي -رحمه الله- في "حاشيته على كفاية الطالب": "إقَامَةُ الْحُدُودِ شَأْنُهَا عَظِيمٌ، فَلَوْ تَوَلَّاهَا غَيْرُ الْإِمَامِ لَوَقَعَ مِنْ النِّزَاعِ مَا لَا يُحْصَى، إذْ لَا يَرْضَى أَحَدٌ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ".
رابعاً: إن خَلا مكانٌ أو زمانٌ من سلطانٍ يقيم الحدود والتعزيرات، فيجب على العلماء وأهل الرأي والحكمة أن يقوموا بما أُوكل إلى السلطان من إقامة الحدود والتعزيرات.
قال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله- في "تحفة المحتاج": "إذَا عدِمَ السُّلْطَانُ لَزِمَ أَهْل الشَّوْكَةِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ أَنْ يُنَصِّبُوا قَاضِيًا، فَتَنْفُذَ حِينَئِذٍ أَحْكَامُهُ لِلضَّرُورَةِ الْمُلْجِئَةِ لِذَلِكَ".
وقال أبو المعالي الجويني -رحمه الله- في "غياث الأمم": "لَوْ خَلَا الزَّمَانُ عَنِ السُّلْطَانِ، فَحَقٌّ عَلَى قُطَّانِ كُلِّ بَلْدَةٍ، وَسُكَّانِ كُلِّ قَرْيَةٍ، أَنْ يُقَدِّمُوا مِنْ ذَوِي الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى وَذَوِي الْعُقُولِ وَالْحِجَا مَنْ يَلْتَزِمُونَ امْتِثَالَ إِشَارَاتِهِ وَأَوَامِرِهِ، وَيَنْتَهُونَ عَنْ مَنَاهِيهِ وَمَزَاجِرِهِ; فَإِنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ، تَرَدَّدُوا عِنْدَ إِلْمَامِ الْمُهِمَّاتِ، وَتَبَلَّدُوا عِنْدَ إِظْلَالِ الْوَاقِعَاتِ".
وقال ابن قدامة -رحمه الله- في "المغني": "وَالْقَضَاءُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ؛ لِأَنَّ أَمْرَ النَّاسِ لَا يَسْتَقِيمُ بِدُونِهِ، فَكَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ.
وقَالَ أَحْمَدُ: لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ حَاكِمٍ، أَتَذْهَبُ حُقُوقُ النَّاسِ؟!!".
خامساً: نظراً للأوضاع التي تمر بها بلاد الشام – مما سيأتي ذكره- فإن المصلحة الشرعية تقتضي تأجيل إقامة الحدود إلا ما تدعو الضرورة إليه مما له تعلق بحقوق الآدميين حفظًا للنفوس والأموال والأعراض؛ كالقصاص، وحد الحرابة، ونحوها على ألا يكون في إقامة الحد مفسدة أعظم من تركه.
ويؤيد القول الذي ذهبنا إليه أمور :
1- عدم حصول التمكين المعتبر شرعًا لوجوب إقامة الحدود، والتمكين الموجود في بعض المناطق لا يتصف بالاستقرار، وليس هو بتمكينٍ تام.
قال ابن تيمية -رحمه الله- في "الفتاوى": "وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقُوَّةِ وَالْإِمَارَةِ".
وليس المراد بالقوة: القدرة على تنفيذها، فهذا يستطيعه آحاد الناس، بل لا بد من حدٍّ زائد على مجرد القدرة على الفعل، يتحقق بِهِ المقصود، وهو ما يرتدِعُ بهِ أهلُ الفسادِ والإجرامِ، ويتحقق به الأمن والاستقرار.
قال ابن أبي العز الحنفي -رحمه الله- في "شرح الطحاوية": "فَالشَّارِعُ لَا يَنْظُرُ فِي الِاسْتِطَاعَةِ الشَّرْعِيَّةِ إِلَى مُجَرَّدِ إِمْكَانِ الْفِعْلِ، بَلْ يَنْظُرُ إِلَى لَوَازِمِ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ مُمْكِنًا مَعَ الْمَفْسَدَةِ الرَّاجِحَةِ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ اسْتِطَاعَةً شَرْعِيَّةً".
وقال أبو الحسن الطرابلسي الحنفي -رحمه الله- في "معين الحكام": " وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ إقَامَةَ الْحُدُودِ لَا تَكُونُ لِكُلِّ أَحَدٍ، بَلْ وَلَا لِكُلِّ وَالٍ؛ لِمَا تُؤَدِّي إلَيْهِ الْمُسَارَعَةُ إلَى إقَامَةِ الْحُدُودِ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ الْفِتْنَةِ وَالتَّهَارُجِ".
2- أن البلاد تعيش في حال حرب واضطراب، وقد ذهب جمع من أهل العلم إلى أن الحدود لا تقام في حال الغزو والحرب في بلاد الكفار، ومع أن سوريا دار إسلام إلا أنَّ المعنى الذي لأجله منع العلماء من إقامتها في الغزو موجود في هذه الحالة.
قال صلى الله عليه وسلم: (لَا تُقْطَعُ الأَيْدِي فِي الغَزْوِ) رواه الترمذي، وصحح إسناده: الحافظ الذهبي، وابن حجر.
قال الترمذي -رحمه الله- في "سننه": "وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ الْأَوْزَاعِيُّ، لَا يَرَوْنَ أَنْ يُقَامَ الْحَدُّ فِي الْغَزْوِ بِحَضْرَةِ الْعَدُوِّ، مَخَافَةَ أَنْ يَلْحَقَ مَنْ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِالْعَدُوّ".
وفي سنن سعيد بن منصور أَنَّ عُمَرَ بن الخطاب كَتَبَ إِلَى النَّاسِ: "لَا يَجْلِدَنَّ أَمِيرُ جَيْشٍ وَلَا سَرِيَّةٍ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَدًّا وَهُوَ غَازٍ ، حَتَّى يَقْطَعَ الدَّرْبَ قَافِلًا ؛ لِئَلَّا تَحْمِلَهُ حَمِيَّةُ الشَّيْطَانِ فَيَلْحَقَ بِالْكُفَّارِ".
كما اكتفى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بحبس أبي محجن لما شرب الخمر في القادسية ولم يجلده.
قال ابن القيم -رحمه الله- في "أعلام الموقعين": "فَهَذَا حَدٌّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ نَهَى عَنْ إقَامَتِهِ فِي الْغَزْوِ خَشْيَةَ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ مَا هُوَ أَبْغَضُ إلَى اللَّهِ مِنْ تَعْطِيلِهِ أَوْ تَأْخِيرِهِ، مِنْ لُحُوقِ صَاحِبِهِ بِالْمُشْرِكِينَ حَمِيَّةً وَغَضَبًا".
3- أن الشريعة تتشوَّفُ لدرء الحدود عن الناس قدر المستطاع، والأوضاع التي تمر بها البلاد من ضيق وضنك مع فشو الجهل العريض والفساد المتراكم، مظنة لدرء بعض الحدود أو تأخيرها.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: "ادْرَؤُوا الْقَتْلَ وَالْجَلْدَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ"، رواه ابن أبي شيبة.
وفي مصنف عبد الرزاق الصنعاني عَنِ إِبْرَاهِيمَ النخعي, قَالَ: " كَانَ يُقَالُ: ادْرَءُوا الْحُدُودَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ, فَإِذَا وَجَدْتُمْ لِلْمُسْلِمِ مَخْرَجًا, فَادْرَءُوا عَنْهُ , فَإِنَّهُ أَنْ يُخْطِئَ حَاكِمٌ مِنْ حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْعَفْوِ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ".
وأَسقَط عُمر بن الخطاب رَضِي الله عنه القَطع عن السارِق في عام المَجاعَة، وجاء عنه قوله: "لَا يُقْطَعُ فِي عذْقٍ، وَلَا فِي عَامِ سَنَةٍ" أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه.
وقال ابن القيم -رحمه الله- في "إعلام الموقعين": "قَالَ السَّعْدِيُّ: سَأَلْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: الْعذْقُ النَّخْلَةُ، وَعَامُ سَنَةٍ: الْمَجَاعَةُ، فَقُلْت لِأَحْمَدَ: تَقُول بِهِ؟
فَقَالَ: إي لَعَمْرِي، قُلْت: إنْ سَرَقَ فِي مَجَاعَةٍ لَا تَقْطَعُهُ؟ فَقَالَ: لَا، إذَا حَمَلَتْهُ الْحَاجَةُ عَلَى ذَلِكَ وَالنَّاسُ فِي مَجَاعَةٍ وَشِدَّةٍ".
قال ابن القيم -رحمه الله- في "إعلام الموقعين": "وهذا مَحْض القياس ومُقتَضى قواعِد الشَّرْع فإن السَّنَة إذا كانت سَنَة مَجاعَة وشِدَّة غَلَب على الناس الحاجَة والضرورة ... وهذه شُبهَة قَويَّة تَدرَأ القَطع عن المُحتاج".
4- حال الجهل عند عامة الناس لتغييبهم عن الدين عقودا طويلة، فإن إقامة الحدود -والحال كذلك- مظنةٌ لنفور الناس عن الدِّين وتمكينٌ للطاعنين من تشكيك الناس في دينهم.
وقد ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- إقامة بعض الحدود على بعض المنافقين مراعاة لمصلحة الدعوة .
قال ابن تيمية –رحمه الله- في "الصارم المسلول": "فلما هاجروا إلى المدينة وصار له دار عز ومنعة أمرهم بالجهاد وبالكف عمن سالمهم وكف يده عنهم؛ لأنه لو أمرهم إذ ذاك بإقامة الحدود على كل منافق لنفر عن الإسلام أكثر العرب".
والسكوت عن بعض المحرمات، وترك فعل بعض الواجبات، لتحيُّن الفرصة المواتية ، مع العمل أثناء ذلك على تهيئة النفوس، من الأمور المعتبرة شرًعا.
قال ابن تيمية في "الفتاوى": "فَالْعَالِمُ ... قَدْ يُؤَخِّرُ الْبَيَانَ وَالْبَلَاغَ لِأَشْيَاءَ إلَى وَقْتِ التَّمَكُّنِ، كَمَا أَخَّرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إنْزَالَ آيَاتٍ وَبَيَانَ أَحْكَامٍ إلَى وَقْتِ تَمَكُّنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
5- أن إقامة الحدود وإن كان الأصل فيها التعجيل، لكن قد يطرأ ما يجيز تأجيل إقامتها إذا ترتب على تطبيقها مفسدة تربو على المصلحة المتحققة بذلك، ولا يُعدُّ ذلك من رفض التحاكم للشرع، بل هو من المصلحة المعتبرة شرعًا.
قال ابن القيم -رحمه الله- في "إعلام الموقعين": "وَتَأْخِيرُ الْحَدِّ لِعَارِضٍ أَمْرٌ وَرَدَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ، كَمَا يُؤَخَّرُ عَنْ: الْحَامِلِ، وَالْمُرْضِعِ، وَعَنْ وَقْتِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَالْمَرَضِ؛ فَهَذَا تَأْخِيرٌ لِمَصْلَحَةِ الْمَحْدُودِ ؛ فَتَأْخِيرُهُ لِمَصْلَحَةِ الْإِسْلَامِ أَوْلَى".
وقال ابن الهمام –رحمه الله- في "شرح فتح القدير": " وَتَأْخِيرُ الْحَدِّ لِعُذْرٍ جَائِزٌ".
وذكر ابن تيمية أنه إذا ترتب على إقامة الحدود فساد أعظم من مصلحة إقامتها فإنها لا تقام، فقال في "الفتاوى": "فَإِنَّهَا مِنْ بَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، فَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ فَسَادِ وُلَاةِ الْأَمْرِ أَوْ الرَّعِيَّةِ مَا يَزِيدُ عَلَى إضَاعَتِهَا، لَمْ يُدْفَعْ فَسَادٌ بِأَفْسَدَ مِنْهُ".
وقال في "الاستقامة": "واقامة الْحُدُود بِحَسب الامكان ... فَإِذا عجز عَن ذَلِك قدمُوا خير الخيرين حصولاً ، وَشر الشرين دفعاً".
6- أن حقوق الله مبناها على المسامحة، بخلاف حقوق العباد القائمة على المشاحة ، ولذلك كانت أولى بالاستيفاء.
قال ابن عابدين–رحمه الله- في "حاشيته": "لَا تَهَاوُنًا بِحَقِّ الشَّرْعِ، بَلْ لِحَاجَةِ الْعَبْدِ وَعَدَمِ حَاجَةِ الشَّرْعِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَتْ الْحُدُودُ، وَفِيهَا حَقُّ الْعَبْدِ يُبْدَأُ بِحَقِّ الْعَبْدِ ".
وقال ابن قدامة: "لِأَنَّ حَقَّ الْآدَمِيِّ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ لِتَأَكُّدِهِ".
سادساً: في حال عدم القدرة على تطبيق الحد يتحرى القاضي ما يناسب الحال من العقوبات التعزيرية الرادعة، مع الاهتمام بالتعليم والنصح ورفع الجهل في المجتمع.
قال أبو الحسن التسولي المالكي –رحمه الله- في أجوبته عن مسائل الأمير عبد القادر في الجهاد: "إذا تعذّرت إقامة الحدود، ولم تبلغها الاستطاعة، وكانت الاستطاعة تبلغ إلى إيقاع تعزير يزدجر به: تنزّلت أسباب الحدود منزلة أسباب التعزيرات، فيجري فيها ما هو معلوم في التعزير".
وأخيرًا:
فإننا نحث إخواننا في الهيئات الشرعية والفصائل على تشكيل هيئة شرعية عليا أو مجلس شرعي قضائي موحَّد, يمكن الرجوع إليه في تقرير هذه العقوبات واختيار الأنسب منها، ومراعاة حال الناس في كيفية تطبيق هذه العقوبات.
والله أعلم.
لا دليل على منع اقامة الحدود بدار الحرب فضلا عن المناطق المحررة التي هي تحت يد المجاهدين .. والقائل بذلك احتج بعلة مستنبطة تخالف اصل الأمر بإقامة الحدود باحتمال وهي احتمال هروب المراد اقامة الحد عليه الى دار الكفار وهذا قد يحدث بغير دار الحرب .. ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى يقيم أمير الجيش الحدود حيث كان من الأرض إذا ولي ذلك فإن لم يول فعلى الشهود الذين يشهدون على الحد أن يأتوا بالمشهود عليه إلى الإمام وإلى ذلك ببلاد الحرب أو ببلاد الإسلام ولا فرق بين دار الحرب ودار الإسلام فيما أوجب الله على خلقه من الحدود لأن الله عز وجل يقول { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم على الزاني الثيب الرجم وحد الله القاذف ثمانين جلدة لم يستثن من كان في بلاد الإسلام ولا في بلاد الكفر ولم يضع عن أهله شيئا من فرائضه ولم يبح لهم شيئا مما حرم عليهم ببلاد الكفر ما هو إلا [ ص: 375 ] ما قلنا فهو موافق للتنزيل والسنة وهو مما يعقله المسلمون ويجتمعون عليه أن الحلال في دار الإسلام حلال في بلاد الكفر والحرام في بلاد الإسلام حرام في بلاد الكفر فمن أصاب حراما فقد حده الله على ما شاء منه ولا تضع عنه بلاد الكفر شيئا أو أن يقول قائل إن الحدود بالأمصار وإلى عمال الأمصار فمن أصاب حدا ببادية من بلاد الإسلام فالحد ساقط عنه وهذا مما لم أعلم مسلما يقوله ومن أصاب حدا في المصر ولا والي للمصر يوم يصيب الحد كان للوالي الذي يلي بعدما أصاب أن يقيم الحد فكذلك عامل الجيش إن ولي الحد أقامه وإن لم يول الحد فأول من يليه يقيمه عليه وكذلك هو في الحكم والقطع ببلاد الحرب وغير القطع سواء فأما قوله يلحق بالمشركين فإن لحق بهم فهو أشقى له ومن ترك الحد خوف أن يلحق المحدود ببلاد المشركين تركه في سواحل المسلمين ومسالحهم التي اتصلت ببلاد الحرب مثل طرسوس والحرب وما أشبههما وما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه منكر غير ثابت وهو يعيب أن يحتج بحديث غير ثابت ويقول حدثنا شيخ ومن هذا الشيخ ؟ يقول مكحول عن زيد بن ثابت . يقول صديق حسن خان القنوجي في شرح الروضة الندية ٣٥٢/٣ : وأما إنكار القصاص في دار الحرب مطلقاً فلا وجه له من كتاب ولا سنة ولا قياس صحيح ولا إجماع . فإن أحكام الشرع لازمة للمسلمين في أي مكان وجدوا ودار الحرب ليست بناسخة للأحكام الشرعية أو لبعضها ، فما أوجبه الله تعالى على المسلمين من القصاص ثبت في دار الحرب كما هو ثابت في غيرها مهما وجدنا إلى ذلك سبيلاً في المسند وغيره بسند حسن عن عبد الرحمن بن أزهر قال : " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخلل الناس يوم حنين يسأل عن منزل خالد بن الوليد ، فأتي بسكران فأمر من كان معه أن يضربوه بما كان في أيديهم .. يقول الجبرين في شرح عمدة الفقه ١٧٧٢/٣ : وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يجب إقامة الحد والقصاص في العزو لعموم نصوص الكتاب والسنة التي أوجبت القصاص وإقامة الحدود ، ولم تفرق بين مكان وآخر ، وهذا هو الأقرب ، وبالأخص إذا كان سيقتل حداً أو قصاصا .. وفي الفتوى المعروضة في الموقع إشكال ، وهو أنهم يرون أن الحدود تسقط نهائيا حتى لو انتهت الحرب وهذا خطأ محض .. نعم بعض أهل العلم يرون تأخير إقامة الحد ليجعل في دار الإسلام ، لكن أن يلغى نهائيا فلم يقل به أحد .. ثم إن القول بترك إقامة الحدود لأسباب ظنية مما يزيد من انتشار السرقة والقتل وغيرهما واختلال الأمن بين الناس وفشو الفساد من الشرب والزنا .. وهذا ليس من مقاصد الشريعة ، والمجرّب في البلاد الأخرى التي إقيمت فيها الشريعة أن الناس يتقبلون ذلك بل و يفرحون به .. مع أن بعض القائلين بعدم صلاحية إقامة الحدود بدار الحرب لديهم الاستعداد للدخول في المجالس التي تشرع وتقنن بل ويقبلون بدخول أحزاب علمانية وغيرها ، معتذرين بنفس المصلحة التي منعتهم من اقامة الحدود ..!!