هل تجوز الاستعاضة عن المال المحجوز في البنك بمالٍ أقلَّ منه؟
السؤال:
هناك أشخاصٌ لديهم أموالٌ في حساباتهم البنكية، وبسبب ظروف البلد بعد التحرير لا يمكنهم السحبُ منها إلا في مجالٍ ضيّقٍ لا يتناسب مع احتياجاتهم، ولذلك فإنهم يلجؤون عند إجراء بعض الخدمات أو الحاجة للنقد إلى مبادلة المبالغ المالية الموجودة في البنك بمالغ نقدية فورية أقل منها، أو تحويل الرصيد البنكي إلى غيرهم مقابل الحصول على دولارات بسعر صرف أكثر مِن سعر السوق، فما الحكم؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاةُ والسلام على رسولِ الله، أما بعد:
فإنّ هذه المعاملات المالية فيها المباح وفيها الممنوع، بحسب طريقة إجرائها، وبيان ذلك فيما سيأتي:
أولاً: إذا كان صاحبُ الرصيد البنكي محتاجًا إلى إجراء معاملةٍ حكومية أو خِدمةٍ عامّة، مثل: (استخراج جواز سفر، أو استصدار أوراق رسمية، أو دفع مستحقّات، ونحو ذلك)، فيجوز له أنْ يوكّل شخصًا بتسديد الرُّسوم التي تتطلبها المعاملةُ نقدًا، على أن يحوِّل له رسومَ المعاملة مضافًا لها أجرةُ الخدمة مِن حسابه البنكي؛ ولا حرج في هذه الزيادة؛ لأنَّها مقابل أجرةِ العمل.
ثانيًا: إذا كان صاحبُ الرصيد البنكي محتاجًا إلى (سيولة نقدية)، فقام بتحويل المال إلى حساب الطرف الثاني مقابلَ أنْ يأخذَ أقلَّ منه نقدًا مِن العملة نفسِها، كمن يحوِّل إلى الحساب مليونين ليرة ويستلمها نقدًا مليونًا وثمانمئة ألف ليرة؛ فهذه المعاملة لا تجوز، وهذه الزيادة ربا؛ لأنَّها مبادلةُ مالٍ بمالٍ مِن جنسِه مع التفاضل.
ثالثًا: وأمَّا إنْ تمت المعاملةُ مع اختلاف العملة، كأنْ يحوِّل مِن حسابه البنكي إلى حسابِ الآخَر بالليرة السورية ويأخذ مقابلَها بالدولار نقدًا: فهذا لا حرج فيه بشرط التقابض في مجلس العقد؛ لأنه مِن قبيل الصّرف، ومِن شرط صحة الصرف حصولُ التقابض قبل التفرّق؛ كما ثبت في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (الذهبُ بالذهبِ، والفضّةُ بالفضّة..، مِثْلًا بمِثلٍ، سواءً بسواءٍ، يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصنافُ، فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدًا بيدٍ) رواه مسلم.
ويقوم التحويلُ إلى الحساب البنكي والشيكُ المصدّق مِن البنك مقامَ القبضِ الحقيقي؛ فيجوز للطرف الأول تحويلُ المال بالليرة إلى حساب الطرف الثاني، ويقبض مقابلها دولاراتٍ نقدًا في المجلس؛ لأنّ التحويلَ للحساب البنكي نوع مِن أنواع القبض الحُكمي، كما يجوز له أنْ يكتبَ شيكًا مصدّقًا قابلاً للصرف بقيمة هذه الدولارات لصالح الطرف الأول.
ولا يشترط في هذه الحال أنْ يكون سعرُ الصَّرفِ مساويًا لسعر الصرف الرسمي أو سعر السوق؛ لأنّه عقدُ معاوضةٍ قائمٌ على التراضي، فيصحُّ بما يتفق عليه الطرفان، وليس مِن شرط الصرفِ تماثلُ قدرِ العُملتين المختلفتين؛ كما سبق في الحديث (فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدًا بيد)، فلا مانع حينئذ أن يكون سعرُ الصرفِ مختلفًا؛ مراعاةً لعدم القبض المباشر باليد، لكن لا ينبغي استغلالُ حاجةِ الناس بأخذ الزيادات الفاحشة.
ولا يقال: إنّ القبض ههنا لم يتحقّق؛ لكونِ البنك لا يمكِّن صاحبَ الرّصيد مِن سحب مالِه كاملًا؛ لأنّ شرطَ صحة عقد المصارفة أنْ يتفرق الطرفان وليس بينهما شيءٌ، وفي حال تحويل المال إلى حساب الطرف الثاني فإنّ المال قد خرج من مِلكه تمامًا ولم يبقَ له به أية عُلقة، وقد قبضه وكيلُ الطرف الثاني (وهو البنك)، وبهذا يكون عقدُ المصارفة الذي بينهما قد انتهى وتمّ بشروطه، ولم يبق لصاحب المال أي ارتباط بالرصيد الذي قد حوّله. وكونُ البنك لا يسمح له بسحب المالِ كاملًا، فهذا آمرٌ آخرُ يتعلَّق بالعلاقةِ بينه وبين البنك، ولا علاقة له بعقد المصارفة وصحّته.
ويمكن عدُّ الصرفِ بهذه الطريقةِ مخرجًا شرعياً لصاحب الحسابِ المقيّد بالسَّحبِ إذ احتاج إلى السيولة النقدية دون الوقوعِ في صورة الربا، وقد أرشد النبيُّ عليه الصلاة والسلام إلى البحث عن المخارج والحلول الشرعية التي لا محظور فيها عند الاحتياج إلى العوض كما في أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما: (أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على خيبر، فجاءه بتمرٍ جَنيبٍ [وهو نوعٌ جيدٌ مِن التمر]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكُلُّ تمرِ خيبر هكذا؟، قال: لا والله يا رسول الله إنّا لنأخذ الصاعَ مِن هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: لا تفعلْ، بع الجَمْعَ بالدراهم [والجمعُ هو التمر الرديء أو الخليط مِن التمر]، ثم ابتَع بالدراهم جنيبًا) متفق عليه..
رابعًا: يجوز لمن يعمل في الوساطة المالية أنْ يأخذَ أجرةً مقابلَ عملِه في الوساطة بين الطرفين وتسهيلِ الاتفاق بينهما، بشرط أنْ تكون المعاملةُ الماليةُ مباحةً؛ لأنه مِن باب السمسرة، والسمسرةُ نوعٌ مِن الإجارة الجائزة التي يقدِّم فيها الوسيطُ خدمةً مقابلَ عوضٍ معلومٍ متّفقٍ عليه.
وختامًا:
فإن مِن الحلول التي وضعتْها الشريعةُ الغَرّاءُ لمثل هذه الحالات والتي ينبغي تذكّرها والعناية بها في هذه الظروف: القرضُ الحسن، بأنْ يُقرضَ شخصٌ صاحبَ الحاجة ما يحتاجه مِن مال، أو يُسدّدَ عنه أجرةَ خدمةٍ مِن الخِدمات، على أنْ يردَّ له مالَه لاحقًا دفعةً واحدةً أو على أقساط، أو يحوّلَ له المالَ في حسابه البنكي دون زيادةٍ أو نقصانٍ.
والقرضُ الحسنُ من أفضل القربات إلى الله، وأجرُها عظيمٌ، وقد جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا: (ما مِن مُسلِمٍ يُقرِضُ مسلمًا قرضًا مرَّتينِ إلَّا كانَ كصدقتِها مرَّةً) رواه ابنُ ماجه.
ومِن أجل حفظِ الحقوق فللطرف الثاني كتابةُ سندٍ أو شيك بقيمة القرض، كما يمكن توثيقُه برهن أو عند الجهات الرسمية.
والله أعلم.