بدأت الثورة السورية ضد نظام البعث الاستبدادي الجائر، وامتدت على نطاق واسع، واستمرت على مبادئها حتى مرّت بتحولات عديدة ومراحل مفصلية كان لها تأثير في مفهوم الحراك السلمي والإيمان بأهميته، إلى أن أُجبرت على حمل السلاح، بعد حملات الاعتقال والتعذيب والقتل والخطف التي مارسها النظام السوري، ثم تدخلت أطراف خارجية لتحويل الثورة إلى صراع دولي، أو إظهارها بمظهر الصراع الطائفي على الرغم من أن الثورة حددت أهدافها منذ العام الأول ورسمت طريقها بوضوح واتفقت على مبادئ أساسية كإسقاط النظام والالتزام بالوحدة الوطنية والسلمية وبناء مجتمع يقوم على مبادئ العدالة والحرية والكرامة.
وقد أنشأ النظام الإيديولوجيات المصنفة على الساحة ودعمها، وساهم من خلال العنف بتفتيت المعارضة وحرف مسار الثورة والتخلي عن المبادئ الأخلاقية للحراك الثوري، كما كان للمال السياسي دور سلبي في ترسيخ الصراع على الهويات وتعدد الإيديولوجيات والانتماءات الحزبية والتقسيمات المناطقية، وأسهم في تشكيل تكتلات تقسم الجماعة وتفرق الصف وتعزز النزعات المذهبية والمناطقية، فأدى هذا كله إلى تعقيد الأحداث وجعل الثورة غنيمة تتقاسمها الدول الكبرى ضمن اتفاقيات إقليمية.
وقد عملت فصائل عسكرية وجهات ثورية كثيرة على تصحيح مسار الثورة، منها المجلس الإسلامي السوري الذي أطلق وثيقة (المبادئ الخمسة للثورة السورية) في إسطنبول 18 أيلول 2015م، ووقعت عليها كبرى الهيئات الشرعية والفصائل العسكرية ومنظمات المجتمع المدني والمجالس المحلية والشخصيات والرموز الوطنية، وشملت المبادئ التي تضمنتها الوثيقة إسقاط نظام الأسد، وتفكيك أجهزته الأمنية، بالإضافة لخروج كافة القوى الأجنبية من على الأرض السورية، والحفاظ على وحدة سورية وهويتها، مع رفض المحاصصة بأنواعها.
في ملف هذا العدد من مجلة (نور الشام) نتناول موضوع الهوية الحزبية للفصائل الثورية والآثار السلبية للمناطقية والمذهبية الضيقة على سورية ومستقبلها.
هوية الثورة السورية:
بدأت الثورة السورية شعبية عفوية من غير أن تكون مصنفة إيديولوجياً، وتشكَّل الجيش الحر على هذا الأساس ليكون امتداداً للثورة السلمية، فما الذي يميز الهوية العامة للثورة وكيف نشأت الهويات الأخرى؟
يرى الدكتور بشير زين العابدين أن الثورة منذ المراحل الأولى لانطلاقها تميزت بتنوع الانتماءات وتعدد الهويات الفرعية ضمن إطار الوطن الجامع، ولم تظهر المشاريع المؤدلجة والهويات الأممية إلا في مرحلة لاحقة عندما حاولت بعض الحركات اللحاق بركب الحراك الشعبي وعملت على أدلجته وتجييره لصالح توجهاتها.
ويرى أن علينا التمييز ههنا بين ثلاثة أمور:
1- المكونات الطبيعية للهوية السورية وعلى رأسها الإسلام والعروبة والهوية الوطنية الجامعة، بالإضافة إلى الانتماء المناطقي الذي صبغ مختلف التشكيلات في مراحلها المبكرة كمكون مجتمعي غير مؤدلج أو منظم حركياً.
2- الهويات الطارئة التي حاولت التغلغل في صفوف قوى الثورة والمعارضة، كمشروع تنظيم "داعش" لإنشاء مشروع خلافة وهمية، ومشروع تنظيم القاعدة لإقامة إمارة إسلامية على أساس أممي، ووجدت حركات الغلو هذه قبولاً في بعض الأوساط الشبابية كرد فعل على تقمص نظام بشار الأسد هوية طائفية ترتكز على المشروع الطائفي الفارسي التوسعي من جهة، والمحاولات التي بذلتها بعض القوى الخارجية لإضفاء صبغة علمانية على الحراك الثوري من جهة ثانية.
3- استيقاظ الهويات الفرعية (العشائرية والإثنية والطائفية)، حيث بادرت بعض المجموعات السكانية إلى تشكيل دوائر أمان تحمي نفسها في ظل اضمحلال السلطة وتحول سوريا إلى دولة فاشلة، وفي مقابل إخفاق المعارضة في تشكيل بنى مؤسسية ناضجة لملء الفراغ، حظيت بعض هذه المجموعات بدعم وتمويل خارجي مما شجعها لتبني سياسات انفصالية وأجندات تتماهى مع مرجعياتها الطائفية والإثنية خارج الحدود.
يمكن القول إن الحراك الثوري تخطى إشكاليات الهوية وتناقضاتها في المراحل المبكرة، وذلك لارتكازه على أسس مطلبية سامية تنادي بإنهاء الدولة القمعية وإطلاق الحريات العامة ومحاربة الفساد وإنهاء حكم آل الأسد الشمولي، حيث تميز بتنوع الهويات وتعددها ضمن دائرة الحراك الوطني، خاصة وأن الحراك الشعبي في المدن السورية عام 2011 لم يكن ينتمي إلى أية إيديولوجية أو تنظيم.
ولاستعادة ذلك الزخم لا بد من التأكيد على أن محاولات جمع القوى الثورية على أجندة سياسية موحدة إلا من خلال تطبيق مفاهيم "إدارة التنوع" ضمن الحراك الوطني، والعمل من خلالها على تحشيد الحراك الثوري وإعادة بناء الدولة ومؤسساتها.
ويضيف الدكتور أيمن هاروش أن "الثورة منذ انطلاقتها كانت شعبية فطرية، أي لم يقم بها نخبة أو جماعة أو حزب، بل انطلقت بتفاعل كل فئات الشعب وألوانه وطوائفه ومشاربه، ولم تكن تحمل مشروعاً سياسياً معيناً ولا عقيدة فكرية معينة، وكانت متلونة بالثقافة الإسلامية في شعاراتها، لأن الثقافة الإسلامية هي ثقافة الشعب السوري كله، ولهذا يمكن القول إن الهوية التي جمعت كل الثوار تحتها هي الهوية الشعبية الوطنية"
يعد الجيش الحر امتداداً للثورة السلمية بالعمل المشترك والتأكيد على الهوية السورية ووحدة الصف، ولكن المسار انحرف وبدأ التفكير بالفصائلية والحزبية لتحقيق مكاسب فردية، وظهرت اتجاهات مغايرة، وحاولت أن تفرض نفسها عن طريق استخدام وسائل عديدة منها القوة وغيرها فنشأت خلافات وصراعات كبيرة على هوية الثورة السورية، فما مصدر هذا الصراع؟
يقول هاروش: " الفصائلية في بداية تشكلها كانت مرحلة ضرورية لانتقال العمل المسلح من الفوضى والعبثية إلى التنظيم والتخطيط، ولكنها ومنذ سنوات صارت عبئاً على الثورة وعثرة في طريقها، بسبب تحولها إلى جماعات وأحزاب متناحرة تسعى لتحقيق مصالحها الخاصة على حساب مصلحة الشعب والثورة.
وأول سبب لهذا التمايز هو السبب الفكري والمنهجي الذي بدأ مع ظهور المؤدلجين بشكل واضح في العمل المسلح، فبدؤوا يرسمون لأنفسهم خريطة ثورية خاصة، ويطلقون أوصافاً استفزازية تنفيرية على من هو خارج خارطتهم مما أدى لشق وشرخ الصف الثوري، ثم تشظت الدائرة الثورية بدخول الغلاة ونشر فكر التكفير والتفجير فكانت قاصمة لظهر الثورة.
والسبب الثاني: هو التبعية للداعم فالعديد من الفصائل صارت تسير في سياسة أقل ما يقال فيها إنها تتماهى مع الدول التي تدعمها، ونحن ندرك ونقدر الحاجة الماسة للدعم وضرورة التواصل والتنسيق مع الدول الداعمة لكن لا بد من بقاء استقلالية وسيادة الفصيل ودورانه في مصلحة الثورة أولاً وآخراً.
والسبب الثالث: الاختراق الذي تمثل بشخصيات تسللت لجسد الثورة وقامت بطرح أجندات تمزق صف الثورة، ولم يسلم منهم لا مجال إسلامي ولا جيش حر، وعرف بعضهم وما يزال الكثير مجهولاً.
والسبب الرابع: الهوى الذي يتمثل في سيلان لعاب البعض على السلطة ولو على حساب دماء الشعب ومعاناته".
أما الدكتور بشير زين العابدين، فيرى أن السبب الرئيس لوقوع الصراع بين الفصائل هو الموروث التاريخي للكيان الجمهوري منذ تأسيسه عام 1932، فالثورة الشعبية قامت على أساس نبذ: الفساد والقمع والطائفية، والمطالبة بالحرية والكرامة والمساواة، لكن العديد من قوى الثورة والمعارضة وقعت في الأخطاء التي وقع النظام فيها من قبل، حيث استشرت في بعض المناطق المحررة مظاهر الفساد وممارسات الإقصاء وسياسات التمييز، وهيمنت ملامح التبعية لإملاءات الخارج، وتورطت العديد من الفصائل في ارتكاب سياسات القمع والتنكيل والاقتتال الداخلي.
أما على الصعيد السياسي؛ فقد انشغلت العديد من مؤسسات المعارضة بمعارك الهيمنة والاستحواذ، ووقعت في شرك الصراع الإقليمي والخضوع لأجندات خارجية لا تقل سوءاً عما وقع فيه النظام.
وتؤكد مظاهر الانحراف في مسار الثورة أن الأخطاء التي وقعت فيها القوى السياسية والعسكرية لم تكن وليدة اللحظة، بل هي جزء من انحراف الممارسة السياسية منذ مرحلة تأسيس الكيان الجمهوري وما تبعه من سلسلة انقلابات عسكرية أودت بالحكم المدني خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ومن أبرز هذه المظاهر:
- الانفصام بين السياسيين والعسكريين وهيمنة التوتر على العلاقة بينهما منذ انقلاب حسني الزعيم في مارس 1949.
- ضعف الممارسة السياسية والإدارية لدى الأحزاب السياسية وسعيها للاستحواذ عن طريق ممارسة القوة المسلحة.
- تبني السلطات الانقلابية سياسات القمع والتنكيل في حق المخالفين لها، واستهانتها بالدم السوري، والحط من كرامة المواطن، وتقييد الحريات العامة
- استشراء الفساد وغياب الشفافية والرقابة على المال العام
- الاستقواء بالخارج لحسم الخلافات البينية
- توظيف الإيديولوجيات الطارئة كوسائل لتعزيز الهيمنة وإقصاء المخالفين.
ويمكن تتبع هذه الممارسات الخاطئة في العمل السياسي إلى مراحل سابقة لحكم البعث (وإن كانت بنسب متفاوتة)، وخاصة في تجارب انقلابات الزعيم والحناوي والشيشكلي، وما أعقبها من حركات تمرد وعصيان حتى انقلاب الانفصال عام 1961.
المنشقون عن الجيش النظامي ودورهم في صنع الهوية:
أخذت عمليات الانشقاق من الجيش النظامي السوري تجري بعفوية وبشكل فردي، فلجأ المنشقون إلى بيئات توفر لهم الحماية، ولم يكن هناك انتقال من سلك إلى آخر يعمل فيه بشكل منظم بالمعنى الحقيقي، ويرى الدكتور بشير زين العابدين أن عمليات الانشقاق من جيش النظام أحد أبرز الفرص الضائعة في مسار الثورة، حيث عرقلت الخلافات البينية بين: قوى "الداخل" و"الخارج"، وبين الحراك "المدني" و"العسكري"، وبين "الفصائل الإسلامية" و"التشكيلات العلمانية" جهود تحشيد الطاقات في مواجهة النظام، وأفضت عمليات الفرز السلبي هذه إلى وقوع معارك جانبية حامية الوطيس للهيمنة والاستحواذ بين قوى المعارضة التي انشغلت بأجندات التطهير البيني عن مقارعة النظام.
لا شك في أن التعامل السلبي مع المنشقين عن مؤسسات النظام المدنية والعسكرية قد حرم الحراك الثوري من خبرات لا يستهان بها، وفوت عليهم فرصة الاستفادة من قطاع كان بإمكانه أن يحدث شروخاً عميقة في بنية النظام.
ولا يمكن التغاضي عن الهجوم المنظم الذي تعرض له بعض المنشقين من قبل قوى سياسية كانت تستحوذ على تمويل بعض أجهزة الاستخبارات الغربية منذ عام 2003، وكذلك من قبل حركات الغلو التي رأت في المشروع الوطني خطراً على منطلقاتها الأممية ومعتقداتها المتطرفة، فضلاً عن نزوع بعض الفصائل إلى إقصاء المنشقين إثر شعورها بأن البساط بدأ يُسحب من تحت أقدامها.
إلا أن حديثنا عن السلبيات في مسار الثورة يجب ألا يمنعنا من الاعتراف بالجهود الكبيرة التي بذلتها بعض الحركات للاستفادة من هذا القطاع الأساسي في الحراك الثوري، وإدراكها بأهميته البالغة في إضعاف مؤسسات النظام القمعية من جهة، وإعادة بناء الدولة ومؤسساتها من جهة ثانية.
في حين يرى الدكتور أيمن هاروش أن المنشقين كانوا الدرع الأول لحماية الثورة من بطش الأسد وبالوقت نفسه الدرع لصد هجمات الدول على الثوار حتى لا يوسموا بالإرهاب، ولكن تكسر هذا الدرع بعد دخول القاعدة وفروعها، وأول خطة ناجحة لهم كانت تشكيل الجيش السوري الحر بقيادة المقدم حسين هرموش رحمه الله، لكن بعد اعتقاله فرط عقده ودخل المنشقون في حسابات فصائلية ودولية أعاقت حركتهم وربما أفسدتها، وصحيح أن الغلاة من داعش والنصرة استهدفوهم وفرطوا عقدهم لكن هم لم يكونوا يداً واحدة ولا جسداً واحداً، ولو كانوا كذلك لشكلوا قوة تستعصي على القاعدة، ومن المؤسف أنهم ما يزالون إلى هذ اللحظة يزدادون انقساماً.
الفصائلية والحزبية وخطرهما على الثورة:
ثمة الكثير من السلبيات التي جرتها الفصائلية والحزبية على الثورة السورية، وربما يتجاوز خطرها في الوقت الحالي ليمتد إلى مستقبل سورية، يقول الدكتور بشير زين العابدين:
" يجب النظر إلى ظواهر انتشار: الفصائل، والميلشيات، والتشكيلات شبه العسكرية، والحركات الفاعلة خارج إطار الدول، من منظورها الإقليمي العام باعتبارها إفرازات طبيعية للفراغ الناتج عن انهيار الجيوش التقليدية في الجمهوريات المتداعية، وحيثما وجدت هذه الحركات فإنها تتسبب في إضعاف كيان الدولة وتعرقل تطوره، وذلك لعدة أسباب أبرزها:
- تغلغل أفكار التطرف والغلو والاختراق الاستخباراتي والتبعية للممول الخارجي في صفوف هذه التشكيلات.
- هيمنة البعد الطائفي في الميلشيات الطارئة بالعالم العربي نتيجة سياسة إيران الممنهجة في دعم هذه التشكيلات وتمويلها.
- انحياز عناصر المجموعات الإثنية والطائفية للهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية ورفضها الخضوع للكيانات الجمهورية ومؤسسات الحكم المركزي.
- تهافت القوى الخارجية لفرض أجندات التوسع وأطماع النفوذ من خلال دعم هذه التشكيلات ودفعها لتبني سياسات التقسيم واستدراجها لخوض معارك بينية تعرقل تشكيل حراك وطني.
لا شك في أن الفصائل قد عانت من إخفاقات كبيرة، فقد كان المأمول -ولا يزال- من هذه الحركات أن تتوحد فيما بينها وتأتلف على أجندة وطنية تملأ الفراغ الناتج عن السقوط المدوي للمؤسسات العسكرية وأجهزة الأمن الشمولية القمعية التي استحوذت منذ ستينيات القرن المنصرم.
ولن يتحقق النهوض من هذه الكبوة إلا من خلال توحيد الإدارة المحلية والقوى العسكرية في بوتقة واحدة في المناطق المحررة، وتعزيز: الشفافية، والإدارة الاحترافية، وأداء المهام الوظيفية الأساسية مثل: توفير الأمن العام، وحماية المنشآت العامة، وحراسة الحدود والمعابر الحدودية، وتوصيل المساعدات للمتضررين، وتخفيف معاناة النازحين والمهجرين.
ولا شك في أن غياب مثل هذه المفاهيم وتضامن المشاريع الوحدوية أمام رايات التقسيم ودعاوى الانفصال يؤثر على مستقبل الكيان في سوريا ويهدد محيطها الإقليمي، ويستدعي المزيد من التدخل الخارجي."
ويرى الدكتور هاروش أن أكبر سلبية سببتها الفصائلية والحزبية هي تحول بعض البنادق لصفوف الثوار بدلاً من النظام، مما أدى لكسر شوكتهم وذهاب ريحهم وضياع المشروع الوطني الثوري الجامع بسبب انكماش وتقوقع كل فصيل على مصلحته ومشروعه، وإطالة معاناة الشعب بسبب إطالة بقاء النظام، إضافة إلى تحول الساحة لحلبة صراعات دولية بسبب تبني الفصائل لمشاريع دولية مختلفة أو تنفيذ أجندات دولية مختلفة.
وما تزال الفرصة متاحة لإنقاذ ما تبقى من الثورة، وأخشى إن بقيت الفصائلية والحزبية موجودة أن تكون عائقاً في بناء سوريا المستقبل حتى لو سقط النظام.
المراجعات الفكرية وميثاق الشرف الثوري:
طرحت بعض الجهات الثورية ميثاق شرف ثوري يتضمن المبادئ العامة التي تحكم العمل الثوري، من ذلك رفض التقسيم والغلو واحترام حقوق الإنسان، وإخراج القوات الأجنبية من سورية، وقد أجرت العديد من الفصائل مراجعات فكرية بعد ميثاق الشرف، فأكدت انتماءها إلى الثورة وبعدها الوطني واهتمامها بالسياسة، فهل استطاع الميثاق رسم حدود الهوية السورية الثورية وتوجيهها نحو المسار الصحيح؟
يقول الدكتور هاروش: ميثاق الشرف الثوري من أفضل الوثائق الثورية التي طرحت في السورية وسبقها ولحقها وثائق مثلها وأفضل، لكن ضعف من يطرح هذه المشاريع وقوة من يعاديها أدت إلى ضعف نتائجها أو انعدامها، ولا شك أن مبادئ ميثاق الشرف هو اقتراب حقيقي لهوية الثورة السورية وتزداد أهميته أنه صدر ممن كان سبباً في ابتعاد الثورة عن هويتها ولكنه عاد لها بعد مراجعات فكرية قوية وكبيرة.
إلا أن الدكتور زين العابدين يرى أنه من المبكر الحكم بأن ميثاق الشرف قد أسهم في رسم حدود الهوية السورية الثورية وتوجيهها نحو المسار الصحيح.
ويرى أن مشكلتنا ليست في صياغة النصوص الحاكمة للحراك الثوري، مثل: مواثيق الشرف ومبادئ الثورة والعقود الاجتماعية ومسودات الدساتير، وإنما في القدرة على الالتزام بها وجعلها واقعاً على الأرض.
لقد أصدرت قوى الثورة والمعارضة في السنوات الستة الماضية عدداً لا يستهان به من النصوص المرجعية المحكمة، ولكنها لم تتمكن من تنفيذ بنودها، وإذا لم تتواكب الممارسة السياسية والتطبيقات الميدانية مع البيانات والنصوص فسيراوح الحراك الثوري في مكانه، وقد يفضي ذلك إلى تكرار تجربة حزب البعث الذي أعلن عن عدة حركات تصحيحية في عهد أمين الحافظ وصلاح جديد وحافظ الأسد، وأصدر بيانات حزبية وعدة دساتير خلال الفترة 1963-2012، وخصص بنوداً طويلة للحديث عن الحريات العامة واحترام حرية وكرامة المواطن السوري لكنه لم يحقق أياً من ذلك على الأرض.
ويضيف الدكتور زين العابدين: لعل الكثير مثلي يتساءلون عن قيمة مواثيق الشرف وبيانات التشكيل وقرارات الاندماج في ظل تفشي مظاهر الاقتتال واستحلال الدم السوري والاستهانة بكرامة المواطن، علماً بأن الفصائل التي ترتكب مثل هذه الانتهاكات كانت تدعي أنها تأسست من أجل حماية السوريين من انتهاكات النظام.
سبل الحفاظ على الهوية الثورية:
أسهم الدعم الخارجي غير المنتظم الذي تلقته الفصائل الثورية في تعدد الولاءات والتوجهات وفوضى الهوية، وكذلك كان للآلة الإعلامية دور كبير في حرف المسار، كيف يمكن للثورة أن تتحرر من هذا القيد بعد سبع سنوات من العمل وما السبل للحفاظ على هوية الثورة للانطلاق منها إلى التوحد والعمل المشترك؟
يرى الدكتور هاروش أن الدعم الخارجي ضرورة ملحة نظراً للظروف التي تعيشها الثورة ودعوة تركه والإعراض عنه غير صحيحة وليست بريئة في كثير من الأحيان كما أن اعتماده تبريراً للانبطاح والتبعية مرفوض، ومادامت حالة الفصائلية موجودة فتحقيق المعادلة الصحية صعب، ولا تتحقق إلا عندما يتكون جسد ثوري واحد على هيئة حكومة انتقالية أو مجلس انتقالي أو مجلس قيادة الثورة وتنخرط فيه كل القوى الثورية السياسية والعسكرية وغيرهما وتتفق على مشروع وطني جامع، عندها يمكن للثورة أن تفرض نفسها وأجندتها على الداعم وتتخلص من التبعية
ويضيف الدكتور زين العابدين: "لإعادة تحديد مسار الثورة وتصحيح الأخطاء التي وقعت في المرحلة الماضية، لا بد من ثلاثة أمور أساسية هي:
1- الأخذ بمصادر القوة بمفهومها الشامل وليس بمفهومها الضيق، فالقوة العسكرية ليست سوى مكون واحد من عدة مكونات من مفاهيم القوة، وإذا فقدت قوى الثورة والمعارضة قوتها الشعبية، وقوتها الاقتصادية، وقوتها الإعلامية، وقوتها البنيوية، وقوتها الفكرية، فإنها ستعاني من خطر الاضمحلال.
2- الاهتمام بحيازة أدوات الممارسة الميدانية والسياسية، فالدبلوماسية على سبيل المثال "فن"، وهي في الوقت نفسه إحدى أهم أدوات الممارسة، ولا شك في أن المطالبة بالخروج من المسار الدبلوماسي والاقتصار على المسار العسكري لمجرد الإخفاق في أستانة وجنيف هو خلل في الممارسة وفي التفكير، إذ ليس بالضرورة أن نُخلي الساحة الدبلوماسية حتى نخوض المعركة العسكرية. ولعل الخلل في ذلك يأتي نتيجة لعدم استيعاب قوى الثورة والمعارضة سبل حيازة باقة متكاملة من الأدوات التي لا بد من توظيفها لتحقيق أهداف الثورة، وإذا كانت بعض القوى السياسية قد دخلت مجال الدبلوماسية بطريقة خاطئة فإن ذلك لا يعني إخلاء الساحة السياسية ولا الدبلوماسية ولا التخلي عن الخطاب الإعلامي وغيرها من الأدوات، وإنما يجب أن يدفعها لتعزيز قدراتها في تلك المجالات.
3- التوافق على أجندة وطنية للانتقال السياسي لا تخضع لإملاءات الخارج؛ ففي تطبيق "نظرية المباريات" لابد أن يكون لديك أجندة تقوم على أساسين رئيسين هما: حيازة مصادر القوة، وامتلاك أدوات الممارسة المتاحة، بحيث تصبح أجندة التحول السياسي قابلة للتطبيق وليست محض نصوص لا يمكن تنفيذها على أرض الواقع، وإذا فقدنا الأجندة والعقل الناظم للحراك الثوري فنحن نخوض قتالاً عبثياً يخضع في الغالب لمخططات قوى أخرى تستهلك طاقاتنا وتستدرجنا لتنفيذ أجنداتها الخاصة.