السبت 2 ربيع الآخر 1446 هـ الموافق 5 أكتوبر 2024 م
هل تجبُ الزكاةُ في "الوديعة البنكية" المجمَّدة بهدف الحصول على الجنسية؟
رقم الفتوى : 289
الثلاثاء 1 ذو القعدة 1443 هـ الموافق 31 مايو 2022 م
عدد الزيارات : 34527

هل تجبُ الزكاةُ في "الوديعة البنكية" المجمَّدة بهدف الحصول على الجنسية؟

السؤال:

هل تقييد الحساب ومنع صاحبه مِن التصرف فيه يسقط الزكاةَ في رصيدِه المالي، ففي بعض الدول يمكن للأشخاص الحصولُ على جنسيتِها مقابلَ إيداعِ مبلغٍ كبيرٍ مِن المال في حسابه في أحد بنوك تلك الدولة، لكنه يُمنع مِن سحبه والتصرف فيه لعدَّة سنوات.

فهل تجب الزكاة في هذا المالِ خلال تلك المدَّة؟

الجواب:

الحمدُ لله، والصَّلاة والسلامُ على رسول الله، وبعد:

فالأصلُ وجوبُ الزكاة في كلِّ ما يملكه الإنسان مِن ذهبٍ أو فضّةٍ أو ما يقوم مقامَهما مِن العملات النقدية، إذا بلغت النِّصابَ، وحال عليها الحولُ، وكانت مِلكيتُه لها تامّة.

وتقييدُ الحسابِ البنكي ومنعُ صاحبِه مِن التصرّف فيه له صورٌ وأحوالٌ يختلف حكمُ الزكاةِ باختلافِها، وتوضيحُ ذلك:

أولًا:

يُشترط لوجوبِ الزكاة في المالِ الذي بلغ النِّصابَ وحال عليها الحولُ: أن تكون مِلكيةُ صاحبِه عليه تامّةً.

والـمِلكُ التامُّ يتحقّق بـ: مِلك العين ومنفعتِها، مع القدرةِ على التصرُّفِ بهما.

قال ابنُ رشد في "بداية المجتهد" عن الزكاة: "وأمّا على مَن تجب، فإنهم اتفقوا أنها على كلِّ مسلمٍ، حرٍّ، بالغٍ، عاقلٍ، مالكٍ ‌النصابَ ‌مِلكًا ‌تامًا".

وقال أبو إسحاق الشيرازي في "المهذب": "ولا تجب فيما لا ‌يملكه ‌مِلكًا ‌تامًا".

وقال ابنُ تيمية في "مجموع الفتاوى": "فالمِلك التَّامُّ يَملك فيه التَّصرُّفَ في الرَّقبة بالبيع والهبة، ويورَث عنه، ويَملك التّصرُّفَ في منافعِه بالإعارة والإجارة والانتفاع وغير ذلك".

فالـمِلكُ التامُّ يعطي المالكَ حقَّ التصرفِ المطلَقِ في العين والمنفعة بكلِّ التّصرفات السائغة شرعًا مِن بيعٍ وهبةٍ وإجارةٍ وإعارةٍ ووصيةٍ ووقفٍ وغير ذلك، ويعطي المالكَ حقَّ الانتفاع الكامل مِن غير تقييدٍ له.

قال برهان الدين ابنُ مفلح في "المبدع" في بيانِ شروطِ وجوبِ الزكاة: "الرابعُ: تمام الملك؛ لأنَّ الـمِلكَ الناقصَ ليس نعمةً كاملةً، وهي -أي الزكاة- إنما تجب في مقابَلَتِها، إذ الملكُ التامُّ عبارةٌ عمَّا كان بيده لم يتعلّق فيه حقُّ غيرِه، يتصرّف فيه على حسب اختياره، وفوائدُه حاصلةٌ له".

وأهمُّ وجوه التصرف التي ينبغي مراعاتها والنظر لها في باب الزكاة: القدرةُ على تنمية المال وتثميرُه؛ لأن الزكاةَ إنما تجب في المال النامي.

ولذا فـ"مال الضِّمار" وهو المال الغائب الذي لا يستطيع صاحبه الوصول إليه: لا زكاة فيه.

ويدخل تحت هذا: أموالُه المغصوبة، والمسروقة، والمفقودة، والمالُ المصادَرُ مِن قِبل الحكومة أو المحجوز عليه، والمالُ المدفونُ في مكانٍ نسيه، والوديعةُ المجحودة، والدُّيونُ الميؤوسُ مِن سدادِها...الخ.

قال الكاساني في "بدائع الصنائع": " وتفسيرُ مالِ الضِّمار: هو كلُّ مالٍ غيرِ مقدورِ الانتفاعِ به مع قيام أصلِ الـمِلك، كالعبد الآبق، والضَّالِّ، والمالِ المفقود، والمالِ السَّاقط في البحر، والمالِ الذي أخذه السُّلطانُ مصادَرةً، والدَّينِ المجحود إذا لم يكن للمالك بيِّنةٌ...، والمالِ المدفون في الصَّحراء إذا خفي على المالك مكانُه".

وقال القَرافي في "الذخيرة": "هو كلُّ مالٍ ‌أصلُ ‌مِلكِه ‌متحقِّقٌ، ‌والوصولُ ‌اليه ممتنعٌ، كالضائع، والمغصوب، والضال، مأخوذٌ مِن البعير الضامر الذي لا يُنتفع به لشدَّة الهزال".

ثانيًا:

الحساباتُ البنكيةُ والأرصدةُ المالية التي لا يستطيع صاحبُها التصرفَ فيها لها أحوالٌ مختلفةٌ، ولكلِّ حالٍ حُكمُها:

الأولى: أنْ يحصلَ تقييدُ الحسابِ دون رضاه واختيارِه، ولا قدرةَ له على دفعِه ورفعِه.

فهذا الرصيدُ لا زكاةَ فيه؛ لأنَّ ملكيتَه عليه ناقصةٌ، فهو وإن كان في مِلكِه لكن لا سلطانَ له عليه، وينطبق عليه ما سبق تقريرُه في المال الناقص الملكية ومالِ الضِّمار.

ومنها: الأرصدةُ الماليةُ التي وقع الحجرُ عليها لحقوقِ الغرماء، والمساهماتُ المتعثّرةُ بسبب عوائقَ وإشكالاتٍ قانونية.

الثانية: أنْ يكون التقييدُ بسبب حقوقٍ ومطالباتٍ لازمةٍ عليه وهو قادرٌ على الوفاء بها، كتسديد بعض الالتزامات أو الغرامات، أو تحديثِ أوراقه الثبوتية، ونحو ذلك.

فهذا المنعُ مِن التصرف بالحساب لا يمنع الزكاةَ؛ لأنَّ التقييدَ بسببه، وهو قادرٌ على رفعِه بإيفاء ما عليه مِن التزامات.

وهذه الصورةُ تشبه "المالَ المرهونَ" الذي لا يتصرف فيه صاحبُه خلالَ مدّةِ الرهن إلا أنه باقٍ على مِلكِه، وملكيتُه له تامّةٌ، وتجب فيه الزكاةُ عند جمهور العلماء مع عدم قدرتِه على التصرُّف فيه؛ لأنَّ المنعَ مِن التصرُّفِ لم يكن بسببٍ ومانعٍ قهري، ولأنه قادرٌ على فكِّ الحَجرِ والمنعِ متى شاء إذا أوفى الحقَّ لصاحبِه.

قال ابنُ قدامة المقدسي في "المغني": "إذا رهن ماشيةً، فحال الحولُ وهي في يدِ المرتـهِن، وجبت زكاتُها على الراهن؛ لأنَّ مِلكَه فيها تامٌّ".

الثالثة: أنْ يكون تقييدُ الحسابِ بإرادته ورضاه، إلا أنَّ المالَ خلال مدّةِ التقييد قابلٌ للنَّماء حقيقةً أو حُكمًا.

ففي هذه الحال تلزم زكاتُه كلَّ سنة؛ لأنَّ التقييدَ لم يَـحُلْ بينه وبين تنميةِ مالِه.

ومِن ذلك: الأموالُ التي توضَعُ في حساباتٍ استثمارية طويلة الأجل، ولا يستطيع صاحبُها سحبَها ولا سحبَ أرباحِها والتصرفَ فيها عدةَ سنين.

جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي، رقم (143): "تجب الزكاةُ في أرصدةِ الحسابات الاستثماريَّة، وفي أرباحِها، على أصحاب هذه الحسابات، إذا تحقَّقت فيها شروطُ الزكاة، سواء أكانت طويلةَ الأجلِ أم قصيرةَ الأجل، ولو لم يقع السحبُ مِن أرصدتها بتقييدٍ مِن جهة الاستثمار أو بتقييد مِن صاحب الحساب".

وجاء في توصيات ندوة قضايا الزكاة المعاصرة الرابعة عشرة: "يجب على صاحبِ الحسابِ الاستثماري في المصرف الإسلامي أنْ يُخرج الزكاةَ عن ذلك الحساب إذا بلغ نصابًا وحدَه أو بضَمِّه إلى موجوداته الزكوية الأخرى، ويستوي الحكمُ فيما كان الحسابُ الاستثماري متاحًا منه السحبُ، أو مجمَّدًا مِن قبل المصرف في استثماراتٍ طويلةِ الأجل، أو بنيّةِ صاحبِ الحساب في عدم السحبِ مِن أصل المبلغِ، والاقتصار على سحب الأرباح".

الرابعة: أنْ يكون تقييدُ الحساب بإرادته ورضاه مِن أجل الحصول على خدمةٍ أو تحقيق مصلحةٍ معتبرة، إلا أنّ المالَ خلال مدةِ التقييد غيرُ قابلٍ للنماء لا حقيقةً ولا حُكمًا.

ففي هذه الصورة نظرٌ واحتمالٌ وخلافٌ، والذي يظهر: عدمُ وجوب الزكاة في هذه الحال؛ لعدم قدرته على التصرف فيه نماءً وتثميرًا، والشرعُ أوجب الزكاةَ في الأموال النَّامية حقيقةً أو تقديرًا، وهذا المالُ مُنع صاحبُه من التصرف فيه فلم يَعُدْ قابلًا للنَّماءِ.

قال الكاساني في "بدائع الصنائع": "لأنّ معنى الزكاة وهو النماءُ لا يحصل ‌إلا ‌مِن ‌المال ‌النامي، ولسنا نعني به حقيقةَ النَّماءِ؛ لأنَّ ذلك غيرُ معتبر، وإنما نعني به كونَ المال مُعَدًّا للاستنماء".

وقال ابن نُجيم في "البحر الرائق" عن النَّماء: "وفي الشرع هو نوعان: حقيقيٌّ وتقديريٌّ، فالحقيقيُّ: الزيادةُ بالتوالد والتناسل والتجارات، والتقديريُّ: تمكُّنُه مِن الزيادة بكونِ المال في يدِه أو في يد نائبه، فلا زكاةَ على مَن لم ‌يتمكّن ‌منها ‌في ‌ماله، كمالِ الضِّمار".

وقال الزيلعي في تبيين الحقائق: "فإن لم يتمكن ‌مِن ‌الاستنماء: فلا زكاةَ عليه لفقْدِ شرطِه".

وقال القرافي في "الذخيرة": "الشرط الثاني: التمكُّنُ مِن التنمية، ويدلُّ على اعتبارِه إسقاطُ الزكاة عن العقار والمقتناة، فلو أنَّ الغِنى كافٍ لوجبت فيهما، ولـمّا لم تجب دلَّ على شرطيةِ التمكّنِ مِن النَّماء إمَّا بنفْسِ المالك أو بوكيله".

ومِن ذلك: الأموال التي تدفع "تأمينًا مسترَدًّا" لقاءَ الحصول على خدمةٍ يحتاجُها، كخِدماتِ الهاتف والكهرباء والإنترنت واستئجار عقار، وتبقى مجمّدةً سنين حتى تنتهي الخدمة: لا تلزم زكاتُها كلَّ عام، وإذا قبضها زكاها لعامٍ واحدٍ استحبابًا.

ومِن قرارات مجمع الفقه الإسلامي رقم (143): "مبالغ التأمينات التنفيذية للمناقصات، والتأمينات النقدية التي تؤخذ مِن الأفراد والمؤسسات مقابلَ الحصول على خِدماتٍ معينة، مثل الهاتف والكهرباء وتأمينات استئجار الأماكن أو المعدات: يزكيها مَن يقدّمُها لسنةٍ واحدةٍ إذا قبضها".

ثالثًا:

"الوديعةُ البنكيةُ" التي تشترط الحكومةُ على الإنسان إيداعَها في أحد البنوك مِن أجل الحصول على جنسيةِ تلك الدولة ينطبق عليها التفصيلُ السابق في حالاتِ تقييدِ الحساب:

1- فإن كان النظام يأذن بوضْعِها في حسابٍ استثماري (مباح شرعًا) مع منعِ التصرف فيها سنين محدّدة: وجبت زكاتُها كلَّ عام؛ لأنها لم تزَل في مِلكه، ولم يُمنعْ مِن تنميتِها.

وإذا كان النظام يسمح بوضعها في حساب استثماري إلا أنَّ صاحبَ المال اختار وضعَها في حسابٍ جارٍ، فإنَّ الزكاةَ واجبةٌ في هذا المال أيضًا؛ لأنه قابلٌ للنماء إلا أنَّ صاحبَه لم يرغب بتنميتِه.

قال أبو الوليد الباجي في "المنتقى": "الزكاةُ واجبةٌ في أموال التنمية، ومنها العين [النَّقد]، سواء صرفها أهلُها بتنميةٍ أو لم يصرفوا؛ لأنَّ ‌التنميةَ ‌ممكنةٌ فيها".

2- وإن كان النظامُ يُلزِم بوضعِها في حسابٍ غير استثماري، مع منعِه من التصرفِ فيها طيلةَ المدة المحدَّدة: فلا تلزم زكاتُها كلَّ عام، وتُزكَّى عند قبضِها لعامٍ واحدٍ استحبابًا.

ومِن قرارات هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية (AAOIFI) في معيار الزكاة رقم (35): "الوديعة القانونية، وهي المحجوزةُ بطلبِ الجهات المختصة، لدى أحدِ البنوك لمنح الترخيص للمؤسسة ولا يمكن سحبُها ولا التصرفُ فيها إلا بعد موافقة تلك الجهات: فإنها تُزكَّى لسنةٍ واحدةٍ إذا لم تمكَّن المؤسسة مِن استثمارها".

رابعًا:

في الأحوال التي لا تلزم الزكاةُ فيها، إذا فُكّ الحجرُ والمنعُ عن الحساب، فهل يزكي عن السنوات الماضية كافة، أو عن سنة واحدة، أو يستأنف الحولَ مِن جديد؟

ثلاثة أقوال للعلماء، أقربها أنه يستأنف حولًا جديدًا يبدأ مِن وقتِ قدرتِه على التصرف في هذا الرصيد، ولو زكاها عن عام مضى فهو أولى وأفضل وأبرأ للذمة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: "وأضعف الأقوال: مَن يوجبها للسِّنين الماضية حتّى مع العجز عن قبضه...، وأقربُ الأقوال: قولُ مَن لا يوجب فيه شيئًا بحالٍ حتّى يحول عليه الحولُ، أو يوجبُ فيه زكاةً واحدةً عند القبض، فهذا القول له وجهٌ، وهذا له وجهٌ، وهذا قولُ أبي حنيفة، وهذا قول مالكٌ، وكلاهما قيل به في مذهب أحمد".

وختامًا:

ينبغي على المسلم أنْ يستذكرَ دائمًا أنَّ الزكاةَ ليست ضريبةً أو غرامةً مالية، بل هي عبادةٌ وقربةٌ إلى الله سبحانه وتعالى يرجو بها العبدُ الأجرَ العظيمَ والثوابَ الجزيلَ، وهي ركنٌ مِن أركان الإسلام، وهي سببٌ للطهارة والتزكية كما قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}، وهي نماءٌ معنويٌّ للمال، ومواساةٌ لإخوانه الفقراء والمحتاجين، وشكرٌ لله الذي أنعم عليه بهذا المال.

والله أعلم.