الثلاثاء 9 رمضان 1445 هـ الموافق 19 مارس 2024 م
الأحقُّ بالحضانة عند سفر أحد الأبوين
رقم الفتوى : 228
الثلاثاء 17 ذو الحجة 1442 هـ الموافق 27 يوليو 2021 م
عدد الزيارات : 32421
الأحقُّ بالحضانة عند سفر أحد الأبوين
السؤال
أنا سوري مقيم في السويد إقامة دائمة، وقد تزوجت امرأة سورية في تركيا وأحضرتها للإقامة معي، وأنجبنا بنتًا (ثلاث سنوات ونصف) وولدًا (سنة ونصف) وبعد مدة طلبت زوجتي الطلاق فطلقتها وعادت إلى أهلها في تركيا، وهي تطالب بحضانة الأطفال، فمن الأحقّ بذلك؟
 
الجواب:
الحمدُ لله، والصلاة والسلامُ على رسول الله، وبعد:
فمسائل الحضانة عمومًا مما يُحتاج فيها إلى حكمٍ قضائي، أو تحكيمٍ من لجنةِ صلحٍ يرتضيها الطرفان؛ لما يتخلل ذلك من أمور عديدة تؤثر في الحكم، ولتقريب المسألة يمكن توضيح التالي:
 
أولًا:
راعت الشريعة مرحلة الطفولة، وأولت الناحية النفسية والتربوية والصحية للأطفال عنايةً خاصةً حتى ينشأ الجيل سويًّا بعيدًا عن التعقيدات والمصاعب التي يسببها فراق الأبوين.
لذا حرَّم الإسلام المضارّة بين الأب والأم عند الفراق، فلا يَمنع الأبُ الأمَّ من طفلها ليوقع الضرر عليها، ولا هي تشق عليه في الطلب أو تمنعه منه، قال تعالى: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ}.
وهذا النهي عن مضارّة أحدهما للآخر بسبب الولد، فلا شك أن إيقاع الضرر بالولد أشدُّ تحريمًا، قال ابن جرير الطبري في تفسيره: "لأن الله تعالى إنْ حرَّم على كلِّ واحدٍ من أبويه ضرار صاحبه بسببه، فالإضرارُ به أحرى أن يكون محرَّمًا".
 
ثانياً:
الحضانة: هي القيام على شؤون الصغير ومصالحه، وحفظه، وتربيته، ودفع الضرر عنه إلى أن يستقلّ هو بفعل ذلك.
ومما تقرر عند عامّة العلماء: أنَّ الأجدر والأقدر على حضانة الأطفال هنَّ النساء؛ لطبيعة خَلقهن واحتياج الطفل لرعايتهن.
قال الكاساني في بدائع الصنائع: "الأصل فيها: النساء؛ لأنهنَّ أشفق وأرفق وأهدى إلى تربية الصغار".
وقال القرافي في الفروق: "النساءُ مقدماتٌ في باب الحضانة على الرجال؛ لأنهنَّ أصبرُ على أخلاق الصبيان، وأشدُّ شفقةً ورأفةً، وأقلُّ أنفةً عن قاذورات الأطفال".
وقال النووي في الروضة: "وهي نوعٌ من ولايةٍ وسلطنة، لكنها بالإناث أليق؛ لأنهنَّ أشفق، وأهدى إلى التربية، وأصبر على القيام بها، وأشد ملازمة للأطفال".
والأم مقدَّمةٌ على الأب في الحضانة عند عامة العلماء ما لم تتزوج.
قال ابن عبد البر في الاستذكار: "لا أعلم خلافًا بين السلف من العلماء والخلف في المرأة المطلقة إذا لم تتزوج أنّها أحقّ بولدها من أبيه ما دام طفلًا صغيرًا لا يميز شيئًا، إذا كان عندها في حرز وكفاية، ولم يثبت منها فسق، ولم تتزوج".
وذلك لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو: أن امرأةً قالت: يا رسولَ الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاءً، وثديي له سِقاءً، وحجري له حِواءً، وإنّ أباه طلقني، وأراد أن ينتزعه مني، فقال لها رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: (أنتِ أحقُّ به ما لم تنكحي)، رواه أحمد وأبو داود بسند حسن.
كما ورد التحذير من التفريق بين الأم وولدها بغير حق: (مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا: فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ) رواه الترمذي، وفي إسناده مقال، وقال الترمذي: "والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم".
 
ثالثًا:
الحضانةُ وإن كانت في الأصل من حقّ المرأة، إلا أنَّ الشرع قيَّد ذلك بما يحقّق (مصلحة المحضون).
وتتحقّق مصلحة المحضون: بالتربية الصحيحة، وحفظ الدين، وحصول الأمن والاستقرار النفسي والصحة السليمة، وتحقيق مصالح الدنيا.
قال ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى:" فكلُّ من قدَّمناه من الأبوين إنَّما نقدِّمه إذا حصل به مصلحتها -أي البنت- أو اندفعت به مفسدتها، فأمّا مع وجود فساد أمرها مع أحدهما: فالآخر أولى بها بلا ريب".
وقال البهوتي في الروض المربع: "ولا يُقَرُّ محضونٌ بيدِ من لا يَصونه ويصلحه؛ لفوات المقصود من الحضانة".
 
رابعاً:
في حال السفر وانتقال الوالدين أو أحدهما إلى بلد آخر، فإنّ الفقهاء قدَّموا الأب في الحضانة، إلا إذا كان السفر بقصد الإضرار بالأم، أو يحصل به ضرر بالطفل كالسفر به لبلاد حرب أو تضييع تربيته في نقله لمجتمع فاسق.
وذكر النووي في روضة الطالبين أنّ للأب "أن ينتزعه من الأم ويستصحبه معه، سواء كان المنتقل الأب أو الأم، أو أحدهما إلى بلد والآخر إلى آخر؛ احتياطًا للنسب، فإنَّ النَّسب يُحْفَظ بالآباء، ولمصلحة التأديب والتعليم، وسهولة القيام بنفقته ومؤنته".
وهذا ما قرره أكثر الفقهاء من مختلف المذاهب الفقهية.
ولكن لا بد من مراعاة: أنَّ الفقهاء حكموا بذلك درءًا لمفاسدَ وتحقيقًا لمصالح تعود على الطفل في تلك الأعصار؛ لأنّ السفر مظنة ضياع الطفل وضياع نسبه وعدم قدرة الأب على الوصول إليه، فجعلوا الحضانة له.
أما في عصرنا الحاضر ومع تطور وسائل التواصل والمواصلات وإمكان تثبيت النسب من خلال الأوراق الرسمية، فلم تعد هذه الأمور وحدها سببًا كافيًا لانتزاع الحضانة من الأم.
فحيث تبين أن اختلاف البلد يؤدي لشيء من المفاسد التي ذكرها الفقهاء، من ضياع النسب، أو عدم القدرة على التربية والإصلاح، أو صعوبة القيام بشؤونه الدنيوية: فإنّه يُلحق بالأب.
وحيث انعدمت هذه المفاسد: فإنّ الأم تبقى هي الأولى والأحقُّ به، وخاصةً إذا كانت تعيش في بلد مسلم والأب في بلد غير مسلم.
قال ابن القيم في زاد المعاد: "فالصواب النظر والاحتياط للطفل في الأصلح له والأنفع من الإقامة أو النُّقلة، فأيهما كان أنفع له وأصون وأحفظ روعي، ولا تأثير لإقامة ولا نقلة، هذا كله ما لم يُرِد أحدهما بالنقلة مضارَّة الآخر وانتزاع الولد منه، فإن أراد ذلك: لم يُجب إليه".
 
خامساً:
الواجب على الوالدين ومن بيده الحضانة على وجه الخصوص القيام بحقوق المحضون الدينية والدنيوية. ومن حقوق المحضون الدينية: حسن تربيته، وتعليمه أمور دينه، وتنشئته في بيئة تحقق له ذلك. ومن حقوقه الدنيوية: الإنفاق عليه، وتعليمه ما يحتاج إليه.
قال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)، يعني: مروهم بالخير، وانهوهم عن الشر، وعلموهم وأدّبوهم؛ تقوهم بذلك نارًا وقودها الناس والحجارة. ولأهمية هذا المعنى فـ "متى أخلّ أحد الأبوين بأمر الله ورسوله في الصبي وعطّله، والآخر مراعٍ له: فهو أحقّ وأولى به" زاد المعاد.
قال ابن حزم في المحلى: "فإن لم تكن الأم مأمونةً في دينها ودنياها نُظر للصغير أو الصغيرة بالأحوط في دينهما ثم دنياهما، فحيثما كانت الحياطة لهما في كلا الوجهين: وجبت هنالك عند الأب أو الأخ، أو الأخت، أو العمة، أو الخالة، أو العم، أو الخال، وذوو الرحم أولى من غيرهم بكل حال، والدين مغلَّب على الدنيا".
وقال ابن تيمية: "وإذا ترك أحد الأبوين تعليم الصبي وأمره الذي أوجبه الله عليه، فهو عاصٍ، ولا ولاية له عليه". (نقله عنه ابن القيم في زاد المعاد) وجاء في شرح منتهى الإرادات للبهوتي: "ولا حضانة لفاسقٍ ظاهرًا؛ لأنّه لا وثوق به في أداء واجب الحضانة، ولا حظ للمحضون في حضانته؛ لأنه ربما نشأ على أحواله".
 
وفي الختام:
ننصح الوالدين بتقديم مصلحة أطفالهما على مصالحهما الشخصية،  ومراعاة حاجة الطفل لكلا الوالدين في التربية والتعليم والرعاية النفسية والاجتماعية، والأفضل أن يتفقا على طريقةٍ يتقاسمان فيها رعاية الأبناء بما يحقق المصلحة في كل مرحلة عمرية لهما، فإن لم يتفقا فيمكنهما الاستعانة بمن يحكم بينهما يكون على اطلاع على تفاصيل حياتهما كطبيعة السكن ومحل السفر والظروف التربوية المحيطة.
 
وأيًا كانت نتيجة اتفاقهما، أو قرار لجنة التحكيم، أو القضاء: فلا يجوز لأحدهما حرمان الطرف الآخر من رؤية الأبناء، أو الإسهام في رعايتهم، أو حرمان الأطفال من رؤيته. وليتذكرا: أن الله تعالى يبارك مع الصدق والوفاء بالعهد والوعد، ويمحق الكذب والغدر والخيانة.
والحمد لله رب العالمين.