الثلاثاء 9 رمضان 1445 هـ الموافق 19 مارس 2024 م
حكمُ أموالِ المهجَّرين مِن بلادهم
رقم الفتوى : 144
الاثنين 2 ذو الحجة 1439 هـ الموافق 13 أغسطس 2018 م
عدد الزيارات : 65357

 

حكمُ أموالِ المهجَّرين مِن بلادهم

 

السؤال:

اضطُر العديد مِن الناس إلى الهجرة مِن مناطقهم إلى مناطق أخرى، وقد تركوا الكثير مِن الأموال والممتلكات مِن أثاث وسلاح وأجهزة طبية وغيرها، كما أخذوا جزءًا منها معهم، وبعضُها أموالُ تبرعات أو زكوات، فما حكم تلك الأموال؟ وكيف يمكن التصرف فيها؟

 

الجواب:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإن ما يتركه المهجَّر خلفه مِن أموال وممتلكات باقٍ على ملكه لا يزول عنه بتركه اضطراراً، وكذا أموال التبرعات في المؤسسات والجمعيات والمشاريع الخيرية هي أمانات بيد القائمين عليها، والأصلُ المحافظة عليها وإنفاقُها في مثل ما أُوقفت عليه، فإن تعطلت منفعتها فإنها تنقل إلى أقرب المنافع إليها، وتفصيلُ ذلك فيما يلي:

أولاً: إنّ لمالِ المسلم حرمةً شديدة، ولذا جاءت النصوص الشرعية بالتحذير مِن الاعتداء عليه أو المساس به دون رضا صاحبه، قال تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ﴾ [النساء: 29].

وقال صلى الله عليه وسلم: (كلُّ المسلِم على المسلم حرامٌ: دمُه، وماله، وعِرْضه) رواه مسلم مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فلا يحلُّ مالُ امرئ مسلم إلا بطيب نفسٍ منه.

وعليه فكلُّ ما يتركه المهاجرُ مِن ممتلكات بعد خروجه باقٍ على ملكه، لا يحلُّ الاعتداء عليه.

والواجبُ تجاه هذه الممتلكات حفظُها وصيانتُها بكلِّ طريقٍ ممكنة مِن كلِّ قادرٍ على ذلك.

 

ثانياً: ما يتركه المهجَّرون خلفَهم أقسام:

1- العقارات مِن بيوت وأراضي، فهذه إن خُشي مِن استيلاء النظام عليها، أو مصادرتها، ولم توجد طريقة لحفظها واستنقاذها إلا بالسكن فيها ، أو وضع اليد عليها، أو حتى بتسجيلها باسم شخص آخر: فلا بأس بذلك، مع اتخاذ الاحتياطات اللازمة لإثبات ملكيتها لصاحبها الحقيقي.

وأما الانتفاع بها في السكنى، فيجوز بإذن أصحابها، وكذا دون إذنهم عند الضرورة والحاجة الملحّة، كما بُين في فتوى رقم 99 : (حكم الاستفادة مِن البيوت والمزارع الخالية لإيواء النازحين والمهجرين).

2- المنقولات مِن أثاث ونحوه، مما لا يُخشى تلفُه في الزمن القريب: فهذه يجب التواصل مع أصحابها لاستئذانهم في التصرف بها، سواء ببيعها، أو نقلها، أو التصدق بها إن رغب صاحبُها بذلك.

فإن تعذر التواصل معهم وخُشي مِن استيلاء النظام عليها ومصادرتها أو نهبها مِن قبل أزلامه أو تعرضها للسرقة، وأمكن بيعُها بثمن المثل أو ما يقاربه وحفظُ ثمنها لأصحابها : فهو المتعيِّن.

فإن تعذّر ذلك، ودار الأمرُ بين أن تُؤخذ أو يصادرها النظام، ففي هذه الحال يجوز أخذها وصرفها للفقراء والمحتاجين مِن باب الضرورة، وإن قُدّر رجوع صاحبِها يوماً ما فهو أحقُّ بها إن كانت عينُها باقية، إلا أن تطيب نفسُه بذلك .

3- الأشياء المستهلَكة، التي تُستهلك قريباً في العادة ولا تبقى مِن المطعومات والمشروبات ونحوها، أو خُشي مِن تلفها بسبب تركها: فلا بأس بأخذِها والاستفادة منها، مع دفعها لأصحاب الحاجة قدر المستطاع؛ لأنها إن لم تؤخذ تلفت أو صادرها النظام، وانتفاعُ الناسِ بها أولى مِن ذهابها هدراً.

جاء في "شرح مختصر خليل" للخرشي: " مَن وجد شيئًا مِن الفواكهِ واللَّحمِ وما أشبه ذلك ممّا يَفسُد إذا أقام، فإنّه يجوز له أن يأكلَه، ولا ضمانَ عليه فيه لربِّه [أي مالكه]، وسواءٌ وجدَه في عامرِ البلَدِ أو غامرِها [غير المزروع] ... وأمّا ما لا يَفسُدُ، فليس له أكلُه، فإذا أكَلَه ضَمِنه".

وينظر فتوى رقم (99): حكم الاستفادة من البيوت والمزارع الخالية لإيواء النازحين والمهجرين.

4- الأشياء اليسيرة، التي لا يأبه لها الناسُ غالباً كبعض أدوات المطبخ، فهذه لا حرج في أخذها والانتفاع بها عند الحاجة، لأنها مما لا تتبعها همة أوساط الناس في العادة، وهي إن لم تؤخذ فمصيرُها الضياع والتلف.

وكلُّ شيء أمكن فيه الوصولُ لصاحبه والاستئذان منه فهو الواجب المتعين .

 

ثالثًا: أموال المؤسسات والجمعيات التي جُمعت مِن التبرعات والصدقات: تُعدُّ أمانةً بيد القائمين عليها، والواجبُ عليهم السعي في حفظ هذه الأمانة بكلّ طريقٍ ممكنة .

وإذا اضطروا للخروج مِن المنطقة :

1- فالممتلكات العينية مِن أدوات والآت ووسائل نقل، وأدوات مكتبية، وعتاد الفصائل، وغير ذلك فلها حكمُ الوقف، والواجب السعي لاستنقاذها بكلِّ سبيل قبل استيلاء النظام عليها، سواء ببيعها وحفظ ثمنها، أو وضعها أمانةً بيد مَن هو قادرٌ على صيانتها وحمايتها، وإن تعذّر فتُصرف لجهاتٍ خيريةٍ قادرة على استعمالها فيما يعود نفعُه لعامة الناس قدر المستطاع.

فإن تعذر كلُّ ذلك، فالتصدقُ بها على الفقراء والمحتاجين – وإن كانت وقفاً- أولى مِن تركها عُرضةً للضياع ونهبِ النظام لها.

قال ابنُ قدامة في "المغني":" تكون المنفعةُ مصروفةً إلى المصلحة التي كانت الأُولى تُصرَف فيها؛ لأنه لا يجوز تغييرُ المصرِف مع إمكان المحافظة عليه، كما لا يجوز تغييرُ الوقف بالبيع مع إمكان الانتفاع به".

2- وأما السيولة النقدية الموجودة في هذه المؤسسات أو التي حُصل عليها بسبب بيع الأعيان الوقفية، فالأصلُ أن تُنفق في مناطق التهجير بعملٍ مماثلٍ للمصارف التي جُمعت لأجلها، وإن تعذر ذلك فيؤخذ بالأقرب فالأقرب لها مِن حيث الجنس والنوع، فتُنفَق هذه الأموال في أقرب مصرف يُحقق قصدَ المتبرع أو يشبهه ويقاربه.

والأصلُ في الوقف أنه لا يجوز بيعُه، وإنما يبقى على ما وُقف له؛ إلا أنَّ ما نحن فيه حالة ضرورة يراعى فيها النظر لاستنقاذ الوقف بقدر الممكن.

قال الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج":" والأصحّ جوازُ بيع حُصُرِ المسجد الموقوفة إذا بَليتْ، وجذوعِه إذا انكسرت، أو أشرفت على ذلك ... ولم تصلح إلا للإحراق؛ لئلا تضيع ويضيق المكانُ بها مِن غير فائدة، فتحصيلُ نزرٍ يسيرٍ مِن ثمنها يعود إلى الوقف أولى مِن ضياعها، ولا تدخل بذلك تحت بيع الوقف؛ لأنها صارت في حكم المعدومة ".

وقال ابن قدامة رحمه الله في "المغني":" وجملةُ ذلك أنّ الوقفَ إذا خرب وتعطلت منافعُه... فلم تُمكن عمارتُه ولا عمارةُ بعضِه إلا ببيع بعضه جاز بيعُ بعضه لتُعمَر به بقيتُه، وإن لم يمكن الانتفاعُ بشيءٍ منه بِيع جميعُه".

 

وأخيراً: فإنّ بيع الوقف أو التصرف فيه يقوم به مَن كان موكَّلاً به مِن إدارة الجمعية، أو قيادة الفصيل، ونحو ذلك، ولا يجوز للأفراد أن ينفردوا بالتصرف فيه باجتهادهم، وما استنقذوه مِن أموال وممتلكات أثناء هجرتهم: فيجب عليهم أن يدفعوه لمن يقوم على الوقف أو الجمعية ليقوم بصرف تلك الأموال على الجهة الموقوف عليها بحسب المشروع.

والله أعلم.