الثلاثاء 9 رمضان 1445 هـ الموافق 19 مارس 2024 م
حكمُ احتكارِ السِّلع التّجارية والموادّ التّموينية
رقم الفتوى : 95
الأحد 26 رجب 1438 هـ الموافق 23 أبريل 2017 م
عدد الزيارات : 74903

 

حكمُ احتكارِ السِّلع التّجارية والموادّ التّموينية


السؤال:
تمنع بعضُ الفصائل دخولَ عددٍ مِن المواد الغذائية والسِّلع التّموينية إلا عن طريقها سواء مِن معابر الحدود مع سورية، أو المعابر والأنفاق داخلَ المناطق المحاصرة والمحرّرة، وترفض تعاملَ أحدٍ آخر بهذه السِّلع، وتقوم هي بتحديد سعر بيعها وكيفية توزيعها فهل هذا مِن الاحتكار المحرم؟
وما هو الضّابط لمسألة الاحتكار والاستغلال في المناطق المحاصرة؟ ومتى تُسمّى تلك الممارساتُ احتكاراً واستغلالاً؟ ومتى تكون تجارةً ؟
وهل إذا اشترى التّاجرُ مادةً ما، ثمّ أُغلق الطّريق، فباع السّلعةَ بسعرٍ مرتفعٍ، فهل هذا مِن الاحتكار المحرم؟


الجواب:
الحمدُ لله، والصّلاةُ والسّلامُ على رسولِ الله ..أمّا بعدُ:
فإنَّ احتكارَ السّلع مِن المحرمات في الشّريعة، وإذا أُضيف إليه استغلالُ القوة والنّفوذ في التّحكم بأقوات النّاس وحاجاتهم كان أعظمَ في التّحريم، وارتكابُ ذلك في أوقات المجاعات والحروب أشدُّ ظلمًا، وأعظم جرمًا، وفيما يلي بيانُ أهمّ أحكام الاحتكار المتعلّقة بالوضع السّوري الحالي:
أولاً: الاحتكار هو: حبسُ السّلع، والامتناعُ عن بيعِها وبذلِها حتى يغلو سعرُها غلاءً فاحشاً، بسبب قلّتِها، مع شدّة حاجة النّاس إليها.
وهو مِن المحرمات التي حذّرت الشريعةُ منها، فعن معمر بن عبد الله رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحتكرُ إلا خاطئ) رواه مسلم.
قال النّووي: "قال أهلُ اللّغة: الخاطئ بالهمز: هو العاصي الآثم، وهذا الحديث صريحٌ في تحريم الاحتكار".
وعن معقلِ بنِ يسار رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مَن دخل في شيءٍ مِن أسعار المسلمين ليُغليه عليهم، فإنّ حقاً على الله أن يُقعده بعُظْمٍ مِن النّار يوم القيامة) رواه أحمد. وعُظمُ الشّيء: أكبرُه.
كما أنَّ في الاحتكار ظلماً كبيراً للنّفس بارتكاب المعاصي والذّنوب:
- فهو ظلمٌ لعامّة النّاس بالتّضييق عليهم في أرزاقهم، ورفع الأسعار عليهم، وتقليل السِّلع في السُّوق.
- وظلمٌ لبقية التّجار بمنعهم مِن الاتجار والتّنافس المباح.
واستغلالُ النّفوذ لإلزام النّاس به، ومنعِهم مِن منافسة المحتكِر يضيفُ ظلماً آخر، ويزيد الاحتكارُ إثمًا ويعظُمُ جرماً إذا وقع في أوقات المجاعات والحروب التي يحتاج النّاسُ فيها إلى المواساة والمساعدة؛ لفقدهم أسبابَ عيشهم، والحصولِ على نفقاتهم، وقد ذكر الفقهاءُ أنَّه لو حَبس شخصٌ طعامًا عن إنسانٍ حتى مات فإنّ ذلك مِن القتل العمد الذي يستحقُّ به فاعلُه القِصاص.


ثانيًا: يجري الاحتكارُ في كلِّ ما يَضرّ احتكارُه بالنّاس، قوتاً كان، أو لباساً، أو متاعًا، أو سلاحًا، وغير ذلك.
فالنّهيُ عن الاحتكار إنّما كان لمكان الإضرار بالعامة، وهذا لا يختصّ بالقوت، كما أنَّ النّصوص الصّحيحة قد أطلقت التّحذيرَ مِن الاحتكار، ولم تخصّص نوعَ المحتكر، وما ورد في بعضِها مِن ذكرٍ للطّعام وغيره فهو مِن باب التّمثيل لا التّقييد.
قال الشّوكاني في "نيل الأوطار": "وظاهرُ الأحاديث أنّ الاحتكارَ محرّمٌ مِن غير فرقٍ بين قوت الآدمي والدّواب وبين غيره، والتّصريحُ بلفظ الطّعام في بعض الرّوايات لا يصلح لتقييد بقية الرّوايات المطلقة، بل هو مِن التّنصيص على فردٍ مِن الأفراد التي يُطلق عليها المطلق".
ثم إنَّ حملَ نصوصِ الاحتكار على إطلاقها هو الأليق بأحكام الشّريعة، والأنسبُ لتطبيقها في هذه العصور التي تنوعت فيها حاجاتُ الناس، وتعدّدت السِّلع التي قد يَضرُّ الاحتكارُ بها أكثرَ مِن الإضرار بالطّعام، كما أنه قد طرأ على الاحتكار فيها مستجداتٌ وأساليبُ يقع فيها الظلم والاستغلال للسِّلع بما لم يكن في العصور السّابقة.


ثالثًا: ذكر أهلُ العلم شروطًا لتحريم الاحتكارِ، وهي:
1- أنْ يكون اشتراه زمنَ الغلاء وحاجة النّاس إليه، ثمّ حبسه ليزيد سعرُه زيادةً فاحشةً، وأمّا إن اشتراه زمنَ الرّخص، وتوفّر السّلعة للنّاس، ولم يضيّق على النّاس بشرائه، فليس بمحتكرٍ.قال ابن رشد الجد في"البيان والتحصيل" :" لا اختلافَ في أنّه لا يجوز احتكارُ شيءٍ مِن الطعام ولا غيره في وقتٍ يضرّ احتكارُه بالنّاس، ويُغليه عليهم".
2- أنْ يدّخره بغرضِ التّجارة والرّبح، فإن ادّخره لحاجته وحاجة أهله، وعياله، ثمّ بدا له أن يبيعه عند غلاء الأسعار فليس باحتكارٍ؛ لما ثبت في الصّحيحين عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قال: (قسم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بينكم أموالَ بني النّضير، فوالله، ما استأثر عليكم، ولاأخذها دونكم، حتى بقي هذا المال، فكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يأخذ منه نفقةَ سنةٍ)، ولفظُه عند الترمذي: (وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يعزل نفقةَ أهلِه سنةً، ثمّ يجعل ما بقي في الكُراع والسّلاح عُدّةً في سبيل الله).
3- أنْ يكون الاحتكارُ مضرّاً بالنّاس، يضيّق عليهم بشرائه تلك السّلعة، فإنْ كان البلدُ كبيراً، والسّلعُ كثيرةً، ولم يتضّرر النّاسُ بشرائه لم يحرم .
جاء في "درر الحكام شرح مجلة الأحكام": "قال في الهداية والكنز والكافي: يُكره - يعني الاحتكار- إذا كان يضرّ بهم بأن كانت البلدةُ صغيرةً، بخلاف ما إذا لم يضرّ بأن كان المصرُ كبيراً؛ لأنّه حبس ملكَه مِن غير إضرارٍ بغيره".
ومما يلحق بصور الاحتكار التي استجدّت في الوقت الحالي: منعُ بعض الفصائل دخولَ السِّلع أو توزيعها إلا مِن خلالها أو مِن خلال التّجّار الذين تتعامل معهم، وكذا جعلُ السِّلعة بأيدي عددٍ معيّن مِن التّجار دون غيرهم، ومنعُ غيرهم مِن بيع هذه السِّلعة، فهذا محقّقٌ للمعنى الذي حُرِّم له الاحتكار مِن الإضرار بالنّاس وتجاراتهم وأعمالهم ومعاشهم، ولا فرق في ذلك بين أن يكون عن طريق منع استيراد السّلع أو دخولها إلى سورية أو المناطق المحاصرة إلا عن طريقهم، أو منع توزيعها إلا عن طريق أشخاص معينين، فكلُّ ذلك مِن الاحتكار الممنوع شرعاً.
قال ابنُ القيم في "الطّرق الحكمية": " ومن ذلك - أي مِن أقبح الظلم - أنْ يُلزم الناسُ ألا يبيع الطعامَ، أو غيرَه مِن الأصناف إلا ناسٌ معروفون، فلا تُباع تلك السلعة إلا لهم، ثم يبيعونها هم بما يريدون، فلو باع غيرُهم ذلك مُنع وعوقب، فهذا مِن البغي في الأرض، والفساد والظّلم الذي يُحبس به قَطْرُ السماء".
ولا يدخل في الاحتكار المحرّم إذا كان المستوردُ شخصًا واحدًا، وباع السِّلعَ بسعرها الحقيقي دون زيادةٍ على النّاس، أو تحكّمٍ في احتياجاتهم، ولم يمنع التجار الآخرين من منافسته في البيع.


رابعًا: يجب على مَن له سلطةٌ في المناطق المحرّرة مِن هيئاتٍ أو محاكمَ  شرعيةٍ، وما يتبعها مِن مجالسَ محليّةٍ الأخذُ على يد الفصائل أو التّجار الظّلمة، ويمنعوا احتكارَهم، وإلا كان ذلك نذيرَ شؤمٍ عليهم أجمعين.
قال صلى الله عليه وسلم : (إِنّ النّاسَ إِذا رَأوا الظّالمَ فلم يَأْخُذوا على يديه أوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ) رواه الترمذي، وأبو داود، وأحمد.
وقد قرّر أهلُ العلم أنَّه إذا خيف الضّررُ على النّاس فللحاكم أنْ يجبرَمَن لدية طعامٌ لا يحتاجه على بيع ما احتكره، أو يأخذه منه، ويعطيه مثله، أو قيمته.
قال ابنُ تيمية في "مجموع الفتاوى" : "لولي الأمر أنْ يُكره النّاسَ على بيع ما عندهم بقيمةِ المثل عند ضرورة النّاس إليه، مثل مَن عنده طعامٌ لا يحتاج إليه، والنّاسُ في مخمصة ، فإنه يُجبَر على بيعه للنّاس بقيمة المثل".
وقال الحطّاب في "مواهب الجليل": "أجمع العلماءُ على أنه لو كان عند إنسان طعام، واضطر الناسُ إليه، ولم يجدوا غيرَه، أُجبر على بيعه، دفعًا للضّرر عن الناس". وقال ابن رشد:" إذا وقعت الشّدةُ أُمر أهلُ الطّعام بإخراجه مطلقاً، كان مِن زراعة، أو جلب".
وجاء في قرارات مجمع الفقه الإسلامي الدولي في دورته الرابعة عشرة المنعقدة بالدوحة ( دولة قطر ) 8 - 13 ذو القعدة 1423هـ، الموافق 11 – 16 كانون الثاني (يناير) 2003مفيما يتعلق بعقود الإذعان: "ما انطـوى على ظلمٍ بالطّرف المذعن، لأنّ الثّمنَ فيه غيرُ عادل (أي فيه غبنٌ فاحشٌ) أو تضمّن شروطاً تعسّفية ضارةً به. فهذا يجب تدخّلُ الدولة في شأنه ابتداءً (قبل طرحه للتّعامل به) وذلك بالتّسعير الجبري العادل، الذي يدفع الظّلمَ والضّرر عن النّاس المضطرين إلى تلك السّلعة أو المنفعة، بتخفيض السّعر المتغالى فيه إلى ثمن المثل، أو بإلغاء أو تعديل الشّروط الجائرة بما يحقق العدل بين طرفيه".
وفيما يتعلق بالوكالات الحصرية: "أن يكون هناك ضرورةٌ أو حاجةٌ عامةٌ أو خاصةٌ متعيِّنة بمتعلّق الوكالة الحصرية، والوكيلُ ممتنعُ عن بيعه إلا بغبن فاحش أو بشروط جائرة. ففي هذه الحال يجب على الدولة أن تتدخل لرفع الظلم عن المحتاجين إليه بطريق التسعير الجبري على الوكيل".
نسأل الله تعالى أنْ يوسّعَ على المسلمين، وأن يفتح عليهم مِن فضله وبركات السماء والأرض، ويغيث ملهوفهم، ويُطعم جائعهم، ويكسو عاريهم، ويجعلهم إخوة متحابين كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ دعا له سائر الجسد بالحمّى والسّهر.
والحمد لله رب العالمين