السؤال:
هل القتال الدائر الآن بين بعض الكتائب المجاهدة في سوريا و"تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام" قتال مشروع أم هو فتنة؟ أرجو تبيين هذا الأمر، لأنه سبب بلبلة وخلافًا بين بعض الكتائب، فمنهم من تصدى لتنظيم الدولة، ومنهم من اعتزل ذلك تحرجاً وتأثمًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجواب:
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد:
فقد ساءنا وساء كل غيور انشغال الكتائب المجاهدة في أرض الشام عن مقارعة النظام المجرم بهذا القتال الذي ذكرت، وإنَّه لأمر تدمع له العين، ويحزن له القلب، ولكنها حكمة الله تعالى؛ ليميز الخبيث من الطيب، وليمحص المؤمنين، ويمحق أهل الكفر والبدع والضلال.
أما سؤالكم إن كان هذا القتال من جنس قتال الفتنة فبيانه كالتالي:
أولاً: دلَّت النصوص الشرعية وكلام أهل العلم على أنَّ قتال الفتنة هو القتال الذي ينشب بين طائفتين من المسلمين كلتاهما على باطل، أو يلتبس فيه أمرهما، فلا يُعلم المُحِق من المُبطِل، أو يتقاتلان لمغانم دنيوية.
فالدخول في هذا القتال منهي عنه، وقد أُمرنا باعتزاله وعدم المشاركة فيه بأي حال من الأحوال، وهو المقصود بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِذَا التَقَى المُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالقَاتِلُ وَالمَقْتُولُ فِي النَّارِ) متفق عليه.
قال الجصاص –رحمه الله- في "أحكام القرآن" تعليقاً على هذا الحديث: "فَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ إذَا قَصَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ ظُلْمًا عَلَى نَحْوِ مَا يَفْعَلُهُ أَصْحَابُ الْعَصَبِيَّةِ وَالْفِتْنَةِ".
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الفتن: (فَمَنْ وَجَدَ مِنْهَا مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا، فَلْيَعُذْ بِهِ) متفق عليه.
قال النووي -رحمه الله- في "شرح صحيح مسلم": "تُتَأَوَّل الْأَحَادِيث عَلَى: مَنْ لَمْ يَظْهَر لَهُ الْحَقّ , أَوْ عَلَى طَائِفَتَيْنِ ظَالِمَتَيْنِ لَا تَأْوِيل لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا".
أما قتال من ظهر ظلمهم وبغيهم وعدوانهم وصيالهم على النفس والمال، فهو قتال مشروع؛ لكفِّ شرهم ودفع أذاهم.
قال الطبري رحمه الله: "لَوْ كَانَ الْوَاجِبُ فِي كُلِّ اخْتِلَافٍ يَكُونُ بَيْنَ فَرِيقَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْهَرَبَ مِنْهُ وَلُزُومَ الْمَنَازِلِ ، لَمَا أُقِيمَ حَقٌّ، وَلَا أُبْطِلَ بَاطِلٌ " نقله عنه القرطبي في تفسيره.
وقال ابن بطال –رحمه الله- في "شرحه لصحيح البخاري": "فأما إذا ظهر البغي في إحدى الطائفتين، لم يحلّ لمسلم أن يتخلف عن قتال الباغية ، لقوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتي تَبْغِى حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}، ولو أمسكَ المسلمون عن قتالِ أهلِ البغي لَبَطُلَت فريضة الله تعالى".
ثانيًا: منذ اليوم الأول من إعلان تنظيم "دولة العراق الإسلامية" ضمّ الشام إلى دولتهم المزعومة، والمصائب تتوالى على أهل الشام من جراء أعمال وتصرفات هذا التنظيم.
حيث يتصرَّف أمراؤهم وقادتهم في البلاد على أنَّهم الدولة الحاكمة المسيطرة التي يجب على الجميع الخضوع لحكمها وقراراتها.
وانشغلوا باحتلال المناطق المحررة وتثبيت أركانهم عن الثغور، وأظهروا الغلو في التكفير، وأشاعوا التخوين والاتهام" بالصحوات" لمن يخالف منهجهم أو لا يقبل بدولتهم!.
فكفَّروا الكتائب المجاهدة، وسفكوا الدم الحرام، واستحلوا أخذ أموال المسلمين بحجة قتال الجماعات المنحرفة، وأشغلوا الناس عن مقارعة النظام، ونشروا الحواجز التي ضيَّقت على الناس معاشهم وامتحنتهم في عقائدهم ودينهم، فأشاعوا الخوف وعدم الاستقرار.
ولما دعاهم المجاهدون إلى التحاكم لشرع الله من خلال محاكم مستقلة، ماطلوا وأبوا وزادوا في غيهم، فلا يكاد يمرُّ يوم إلا ونسمع خبر اعتقال أو سفك دم لخيرة المجاهدين والإغاثيين والإعلاميين، بادعاءات وشبهات لا دليل عليها.
فهؤلاء جمعوا أوصافًا شنيعة، كل منها كاف في نفي صفة الفتنة عن قتالهم، فكيف باجتماعها:
الوصف الأول: الاعتداء على معصومي الدم والمال، وقد شرع الله ردَّ الاعتداء بمثله، قال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194].
وقال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قُتلَ دُونَ مالهِ فهو شهيد، ومَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فهو شهيد ، ومن قتلَ دون دِينه فهو شهيد، ومن قُتلَ دُونَ أهْلهِ فِهو شهيد) رواه أبو داود، والترمذي.
الوصف الثاني: البغي، فإذا كانت الفئة الباغية يُشرع قتالها لمجرد بغيها، فكيف بمن جمع بين البغي والغلو والتكفير بغير حق، قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }[الحجرات:9].
قال القرطبي –رحمه الله- في "تفسيره": "في هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ قِتَالِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ الْمَعْلُومُ بَغْيُهَا عَلَى الْإِمَامِ، أَوْ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ".
الوصف الثالث: الاجتماع على الباطل والامتناع من الانقياد للحق.
قال ابن تيمية –رحمه الله- في "الفتاوى":" وَقَدْ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الطَّائِفَةَ الْمُمْتَنِعَةَ إذَا امْتَنَعَتْ عَنْ بَعْضِ وَاجِبَاتِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ قِتَالُهَا إذَا تَكَلَّمُوا بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَامْتَنَعُوا عَنْ الصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، أَوْ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ، أَوْ حَجِّ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، أَوْ عَنْ الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَوْ عَنْ تَحْرِيمِ الْفَوَاحِشِ... وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ عَلَيْهَا حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ".
فإنهم لما دُعوا مراراً للتحاكم للشرع من خلال محاكم شرعية مستقلة أبوا وامتنعوا بما عندهم من الشوكة، مما أدى إلى تعطيل الحكم في الدماء والمنازعات التي جرت بينهم وبين القوى الثورية الاخرى من كتائب وغيرها.
الوصف الرابع: مشابهة أفعالهم لأفعال الخوارج الأولين، الذين أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقتالهم، فقد اجتمع في هؤلاء من صفات الخوارج من تكفير المخالفين لهم، وقتل أهل الإسلام، مع المكابرةِ وردِ الحقّ، ما يجعلهم يُلحقون بهم حكمًا، بل قد فاقوهم في صفات الغدر، والخيانة، ونقض العهود، وتضييع الأمانات.
قال صلى الله عليه وسلم: (وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا وَلَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ) رواه مسلم.
وقال: (سَيَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا، لِمَنْ قَتَلَهُمْ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) متفق عليه.
وقال فيهم: (يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ، لَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ) متفق عليه.
بل إنَّه -صلى الله عليه وسلم- عدَّ قتلاهم شرَّ القتلى، وقتلى المسلمين على أيديهم خير القتلى، فقال: (طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ وَقَتَلُوهُ، يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَلَيْسُوا مِنْهُ فِي شَيْءٍ، مَنْ قَاتَلَهُمْ كَانَ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْهُمْ) رواه أبو داود.
وقال: (شَرُّ قَتْلَى قُتِلُوا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ، وَخَيْرُ قَتِيلٍ مَنْ قَتَلُوا) رواه أحمد.
وما أشبه حال هؤلاء بحال التتار الذين قال فيهم ابن تيمية –رحمه الله- في "الفتاوى": "وَقَدْ تكلَّم النَّاس فِي كَيْفِيَّةِ قِتَالِ هَؤُلَاءِ التَّتَرِ مِنْ أَيِّ قَبِيلٍ هُوَ، فَإِنَّهُمْ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَلَيْسُوا بُغَاةً عَلَى الْإِمَامِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا فِي طَاعَتِهِ فِي وَقْتٍ ثُمَّ خَالَفُوهُ. فَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ [ أي ابن تيمية ]: هَؤُلَاءِ مِنْ جِنْسِ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ خَرَجُوا عَلَى عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ، وَرَأَوْا أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِالْأَمْرِ مِنْهُمَا، وَهَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِإِقَامَةِ الْحَقِّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَعِيبُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا هُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِهِ مِنَ الْمَعَاصِي وَالظُّلْمِ".
ثالثًا: لا يمنع من قتالهم ما يوجد فيهم من عبادة أو طاعة أو جهاد، فقد أخبرنا رسول الله عن أوصاف الخوارج في العبادة حتى لا نغترَّ بهم فقال: (لَيْسَ قِرَاءَتُكُمْ إِلَى قِرَاءَتِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلَا صَلَاتُكُمْ إِلَى صَلَاتِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلَا صِيَامُكُمْ إِلَى صِيَامِهِمْ بِشَيْءٍ) رواه مسلم.
وقال: (يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ ) متفق عليه.
وقال عبد الله بن عباسٍ -رضي الله عنه- في وصفهم: "فَدَخَلْتُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ أَرَ قَوْمًا قَطُّ أَشَدَّ اجْتِهَادًا مِنْهُمْ، أَيْدِيهِمْ كَأَنَّهَا ثَفِنُ الْإِبِلِ [أي ركبها الغليظة]، وَوُجُوهُهُمْ مُعَلَّمةٌ مِنْ آثَارِ السُّجُودِ" رواه عبد الرزاق في المصنف.
فمع شدَّة اجتهادهم في العبادة إلا أنَّهم وقعوا في بدع منكرة استحلوا بها الدماء والأموال.
رابعًا: يجب على المجاهدين عدم الخروج عن المنهج القويم في قتالهم، كالفحش في سبهم، أو رميهم بالكفر، أو النفاق - وإن رموا هم مخالفهم بذلك - فالكفر حكم شرعي لا يجوز إطلاقه إلا بتحقق شروطه وانتفاء موانعه، ويكون ذلك من أهل العلم الراسخين.
كما يحرم تجاوز الحدِّ المشروع في قتالهم بالتعذيب، أو الإهانة، أو التعرُّض لمن لا يجوز قتاله من نسائهم وأطفالهم، وقد سبقت فتوى حول (حكم قتل نساء وأطفال الأعداء من باب المعاملة بالمثل) فكيف بالمسلمين المنحرفين؟
ولقتال هؤلاء أحكام خاصة ليس هذا مكان بسطها.
خامسًا: غاية قتال هذه الفئة أن ترجع عن بغيها وظلمها، وذلك بسحب إعلان دولتهم المزعومة، والكف عن تكفير الجماعات المجاهدة وقتالها، وإرجاع ما اغتصبته منها، والخضوع للمحاكم الشرعية المستقلة، والارتداع عن الأفعال الشنيعة حقًا لا ادعاءً.
قال الطبري -رحمه الله- في "تفسيره" لقوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}: "فَإِنْ أَبَتَ إِحْدَى هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ الْإِجَابَةَ إِلَى حُكْمِ كِتَابِ اللَّهِ لَهُ وَعَلَيْهِ ، وَتَعَدَّتْ مَا جَعَلَ اللَّهُ عَدْلًا بَيْنَ خَلْقِهِ ، وَأَجَابَتِ الْأُخْرَى مِنْهُمَا، {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} يَقُولُ: فَقَاتِلُوا الَّتِي تَعْتَدِّي، وَتَأْبَى الْإِجَابَةَ إِلَى حُكْمِ اللَّهِ {حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} حَتَّى تَرْجِعَ إِلَى حُكْمِ اللَّهِ الَّذِي حَكَمَ فِي كِتَابِهِ بَيْنَ خَلْقِهِ".
سادساً: يجب على المجاهدين أن لا ينصرفوا إلى هذا القتال بكُلِّيتهم، فينشغلوا به عن قتال العصابات الباطنية والأحزاب الرافضية، فما خرج من خرج في سبيل الله، ولا تشكَّلت هذه الكتائب والألوية إلا لإسقاط النظام النصيري الكافر الفاجر، فليقدَّر لكل أمر قدره.
كما يجب على العلماء وطلبة العلم مواجهة الغلو وكشف شبهات الغلاة، مهما تباينت أسماؤهم واختلفت أفكارهم، وحوار من انجرف إلى ذلك من الشباب بالحكمة والموعظة الحسنة؛ فهذا واجب الوقت الذي لا ينبغي السكوت عنه؛ فخطر الغلو في الدين لا يقل عن خطر أنظمة الكفر والطغيان، قال ابن عساكر –رحمه الله- في "تاريخ دمشق": "ولو أمكن الله الخوارج من رأيهم لفسدت الأرض وقطعت السبل وقطع الحج من بيت الله الحرام وإذا لعاد أمر الإسلام جاهلية حتى يعود الناس يستغيثون برؤوس الجبال كما كانوا في الجاهلية".
وأخيراً:
نقول للأمة الإسلامية جمعاء: إنَّ جهاد إخوانكم في سوريا بخير إن شاء الله، وإنَّ هذه المحن لن تزيده إلا تمايزًا في الصفوف، واتحادًا في الكلمة، فلا تقعدنَّ بكم هذه الأحداث عن الاستمرار في نصرة إخوانكم من المجاهدين الصادقين.
ولله دركم يا أهل الشام فقد اجتمع عليكم كل أهل الكفر والنفاق من الباطنية والرافضة، وأهل البغي والعدوان من الفرق الضالة، وأرادكم الله حربًا لكل هؤلاء، والله معكم ولن يتِرَكم أعمالكم.
اللهم انصر المجاهدين واخذل الكفرة المجرمين والمبتدعين الضالين، وردّ المسلمين إلى دينك ردّاً جميلاً ، إنك على كل شيء قدير ، وبالإجابة جدير.
والحمد لله رب العالمين
الأحد 16 ربيع الآخر 1435هـ
الموافق 16 شباط/فبراير 2014 م
( لتحميل الفتوى مطوية pdf من هنا)

- من تكملة كلام ابن جرير في تفسير الآية= روايات هتين الروايتين:- قال ابن زيد:(هذا أمر من الله أمر به الولاة...ولايقاتل الباغية إلا الإمام). رواه ابن جرير بسند صحيح وقال ابن عباس:(حق على إمام المؤمنين). رواه ابن جرير بسندجيد - {فقاتلوا التي تبغي} قال ابن تيمية:(المأمور هو غير المبغي عليه). "الاستقامة"1/34 - ذهب بعض العلماء[كالأوزاعي والكيا الهراسي في"أحكام القرآن4/382] إلى أن ضابط التفريق بين الأمر بقتال الباغية في الآية،وأدلة النهي عن قتال الفتنة= هو وجود الإمام أو عدمه. - فمن الأخطاء المعاصرة في التفسير= تفسير{...فقاتلوا التي تبغي} بالأمر بعودة إحدى الطائفتين المسلمتين التي ليس فيها الإمام إلى مقاتلة الأخرى. وفقك اللهالأخ أبو سليمان وفقه الله.. في التالي جواب ما سألتم عنه. أولاً: أنَ المأمور بقتال البغاة هو الإمام لا غير: والجواب: 1- أن قتال البغاة من فروض الكفايات التي خاطب الله بها عموم المسلمين بقوله: {فقاتلوا التي تبغي}، وأوّل من يتوجّه إليه هذا الخطاب الإمام الذي نصبه المسلمون عليهم لحفظ الدين، وسياسة الدنيا به، ومِن حفظ الدين القيام بفروض الكفايات من الجمع والجماعات والحدود والقصاص وقتال البغاة والخوارج وغيرها ... لكن إذا غاب الإمام لم يجز تعطيل تلك الفروض بذلك، بل يجب على المسلمين ممثلين بعلمائهم وأهل الحل والعقد فيهم أن يقوموا بتلك الواجبات الشرعية حسب الطاقة والقدرة، مع مراعاة الضوابط والقواعد الشرعية المتعلقة بذلك . قال الجويني في "غياث الأمم" : " كلُّ واقعةٍ وقعت في الإسلام تعيّن على ملتزمي الإسلام أن يقيموا أمر الله فيها، إمّا بأنفسهم إذا فقدوا من يليهم، أو بأن يتبعوا أمر واليهم". وقال: "لو فرضنا خلو الزمان عن مطاع ، لوجب على المكلفين القيام بفرائض الكفايات ، من غير أن يرتقبوا مرجعاً ". ولازم هذا القول تعطيل الكثير من الأحكام التي تتعلق بالجهاد في سوريا في الوقت الحالي، كالفصل في الأسرى، والغنائم، وأحكام الجاسوس، وغير ذلك من أمور القضاء، وكلها من الأحكام السلطانية التي ليس للأفراد أن يقوموا بها في الأصل. لكن في غياب الإمام يقوم العلماء وطلبة العلم وأهل الشوكة بما يقدرون عليه كما سبق بيانه. 2- كما أن ما ذكره بعض أهل العلم من وصف البغاة بأنهم من خرجوا على الإمام، فهذا وصف لبعض أصناف البغاة، وليس وصفًا شاملاً لجميع أصنافهم وأفعالهم؛ فإنَّ من البغي ما يكون بالخروج على جماعة المسلمين، وإن لم يكن لهم إمام، قال القرطبي في تفسيره: " الثالثة: في هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ قِتَالِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ الْمَعْلُومِ بَغْيُهَا عَلَى الْإِمَامِ أَوْ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ". وقال ابن مفلح في "الفروع": وقيل للقاضي: يجوز قتال البغاة إذا لم يكن هناك إمام؟ فقال: نعم، لأن الإمام إنما أبيح له قتالهم لمنع البغي والظلم، وهذا موجود بدون إمام". ومن البغي ما هو رفض الصلح والتحاكم للشرع، قال الطبري : "يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ اقْتَتَلُوا، فَأَصْلِحُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بَيْنَهُمَا بِالدُّعَاءِ إِلَى حُكْمِ كِتَابِ اللَّهِ، وَالرِّضَا بِمَا فِيهِ لَهُمَا وَعَلَيْهِمَا، وَذَلِكَ هُوَ الْإِصْلَاحُ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى} يَقُولُ: فَإِنْ أَبَتَ إِحْدَى هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ الْإِجَابَةَ إِلَى حُكْمِ كِتَابِ اللَّهِ لَهُ، وَعَلَيْهِ وَتَعَدَّتْ مَا جَعَلَ اللَّهُ عَدْلًا بَيْنَ خَلْقِهِ، وَأَجَابَتِ الْأُخْرَى مِنْهُمَا {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} يَقُولُ: فَقَاتِلُوا الَّتِي تَعْتَدِّي، وَتَأْبَى الْإِجَابَةَ إِلَى حُكْمِ اللَّهِ {حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} يَقُولُ: حَتَّى تَرْجِعَ إِلَى حُكْمِ اللَّهِ الَّذِي حَكَمَ فِي كِتَابِهِ بَيْنَ خَلْقِهِ {فَإِنْ فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} يَقُولُ: فَإِنْ رَجَعَتِ الْبَاغِيَةُ بَعْدَ قِتَالِكُمْ إِيَّاهُمْ إِلَى الرِّضَا بِحُكْمِ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ، فَأَصْلِحُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى الَّتِي قَاتَلَتْهَا بِالْعَدْلِ: يَعْنِي بِالْإِنْصَافِ بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ حُكْمُ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ الَّذِي جَعَلَهُ عَدْلًا بَيْنَ خَلْقِهِ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ" . 3- وليس من شرط تحقق وصف البغي وجود الإمام لعموم الآية، " طائفتان" نكرة في سياق الشرط، وفهم العلماء للآية على عمومه، ولم ينص أحد من المفسرين على أن الآية خاصة بالبغاة على الإمام ، وما يذكره المصنفون في الفقه هو اصطلاح لبعض البغاة، ولم يقصدوا حصر البغي فيهم، كما سبق في كلام القرطبي. ثانيًا: أنَّ المخاطب بقتال الباغية هو غير المبغي عليه : والجواب: - ما نقلتَه مِن قول ابن تيمية : (المأمور هو غير المبغي عليه) هل معناه أنّ الطائفة المظلومة المبغي عليها ليس لها أن تدافع عن نفسها؟ ويجب عليه أن تعتزل الفتنة ، وتستسلم للقتل كما يُفهم من كلامك ؟! هذا ما لم يقصده ابن تيمية في كلامه، علاوة على مخالفته لنصوص الكتاب والسنة التي فيها مشروعية رد العدوان، ودفع الصائل ممن جاء به . وتوضيحُ ذلك: أن الله تعالى ذكر في آية البغي ثلاثة أطراف ، طرفان متقاتلان ، وبقية المؤمنين ، فوجه الخطاب في الآية لبقية المؤمنين أن يقوموا بواجب رد الطائفة الباغية عن بغيها ، ولكن لماذا لم يتوجه الخطاب للطائفة المبغي عليه ؟ الجواب واضح، وهو أن الطائفة المبغي عليها مباشِرةٌ لقتال الباغي، وردّ البغي عنها، فلا حاجة لتوجيه الخطاب إليها ، بل المطلوب توجيه الخطاب لكلّ من يبلغه هذا الخطاب من المؤمنين أن ينصروا تلك الطائفة المظلومة ويردّوا عنها البغي. ولو أنك أكملت كلام ابن تيمية لوجدتَ ذلك واضحاً ، حيث قال : "والمأمور بِالْقِتَالِ هُوَ غير المبغى عَلَيْهِ ، أَمر بِأَن يُقَاتل الباغية حَتَّى ترجع إِلَى الدّين، فقتالها من بَاب الْجِهَاد ، وإعانة الْمَظْلُوم المبغي عَلَيْهِ". وعلى ذلك فقولكم : " فمن الأخطاء المعاصرة في التفسير= تفسير{...فقاتلوا التي تبغي} بالأمر بعودة إحدى الطائفتين المسلمتين التي ليس فيها الإمام إلى مقاتلة الأخرى". لا محلّ له ؛ لأنّ قتالها شرعي، وليس فيه عودة، بل هو استمرار للقيام بالواجب ، والأمرُ في الآية لبقية المؤمنين على إعانتها والوقوف معها كما سبق ، ولو قال قائلٌ : إنها داخلة في عموم المخاطبين بقوله : {فقاتلوا} لم يكن بعيداً ؛ لأنهم من المؤمنين، وهم أولى مَن يقوم بهذا الواجب . ثالثًا: المنازعة في إطلاق وصف البغاة على تنظيم (الدولة): والجواب: 1- استدلالك بما نقلته عن الأوزاعي والكيا الهراسي هو استدلالٌ بالخلاف ، والخلاف ليس بدليل، ولا حجة شرعية . قال الخطابي في أعلام الحديث : " وليس الاختلافُ حجةً ، وبيانُ السُّنّةِ حجّةٌ على المختلفين مِن الأولين والآخرين " ، وقال ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله: " الاختلاف ليس بحجة عند أحد علمته مِن فقهاء الأمة إلا مَن لا بصرَ له ، ولا معرفة عنده ، ولا حجةَ في قوله ". فمجرّد وجود قول لعالم يخالف ما قرره بقية أهل العلم فلا عبرة به ما لم يقم الحجة عليه ، وقد ذكر العلماء قول العلماء الأوزاعي ، وبيّنوا ضعفه ، قال ابن حجر في الفتح : " وفصّل آخرون فقالوا : كلُّ قتالٍ وقع بين طائفتين من المسلمين حيث لا إمام للجماعة فالقتال حينئذ ممنوعٌ، وتنزل الأحاديث التي في هذا الباب وغيرِه على ذلك ، وهو قول الأوزاعي . قال الطبري : والصّواب أن يقال إن الفتنة أصلها الابتلاء ، وإنكارُ المنكر واجبٌ على كلِّ مَن قدر عليه، فمن أعان المحقَّ أصاب ، ومن أعان المخطئ أخطأ ، وإن أشكل الأمر فهي الحالة التي ورد النهي عن القتال فيها". وقال النووي في شرح مسلم : " وقال معظمُ الصّحابة والتابعين وعامة علماء الإسلام: يجب نصرُ المحق في الفتن، والقيام معه بمقاتلة الباغين، كما قال تعالى: { فقاتلوا التي تبغي } الآية، وهذا هو الصّحيح. وتُتأوّل الأحاديثُ على مَن لم يظهر له المحقّ، أو على طائفتين ظالمتين لا تأويلَ لواحدة منهما. ولو كان كما قال الأولون لظهر الفساد، واستطال أهلُ البغي والمبطلون". ويدلُّ على ضعف هذا القول كذلك : أن لفظ الآية عام في كل طائفتين مقتتلتين من المؤمنين ، سواء كان ذلك في وجود الإمام أو عدمه ، فقصر دلالة الآية على ذلك تحكم يفتقر إلى الدليل . - أنّ المفسرين فهموا الآية على عمومها، ولم يقيدوها بوجود الإمام ، أو بأنّ هذا الواجب يسقط إذا فقد الإمام أو أخلّ بهذا الواجب . 2- من المهم التنبه إلى أنَّ الفتوى لم تقتصر في وصف تنظيم (الدولة) بالبغي فحسب، بل ذكرت أنَّه جمع أمورًا منها الاعتداء على معصومي الدم والمال، والاجتماع على الباطل والامتناع من الانقياد للحق، وسلوك مسلك الخوارج في القائد والأفعال، بالإضافة للبغي، وبهذا فهم فاقوا الخوارج الأولين في الصفات والجرائم، والأدلة الشرعية وأقوال أهل العلم فيمن اتصف بصفة من هذه الصفات واضح ومعلوم. فالاقتصار على وصفهم بالفئة الباغية كما ذكرها الفقهاء في أحكام البغاة غير صحيح. والله أعلم.