الجمعة 19 رمضان 1445 هـ الموافق 29 مارس 2024 م
جبل الأكراد ومعبر بيسون .. مشاهدات ومواقف
الثلاثاء 7 ذو الحجة 1433 هـ الموافق 23 أكتوبر 2012 م
عدد الزيارات : 22663

مآسي تتكرر ولا تتوقف
كلما شاهدت مأساة قلت إنها الأكبر والأعظم .. ولكن لا ألبث حتى أشاهد ما يدمي القلب .. لا مبالغة في هذا الكلام ولا "تبهير" فالعين خير دليل لمن لا يصدق .. فليأتِ و يشاهد!
هذا حال جبل الأكراد ونازحيه اليوم.

 


دخلت الجبل عبر الجبال والغابات، ظننته دخولاً سهلاً  كما دخلت إدلب عبر سهل لا صعوبة فيه سوى طول المسير.
أما الدخول إلى جبل الأكراد يستوجب عليك أن تسير مدة ساعة على أقل تقدير بين الغابات وفي طريق جبلي.
هل تعلمون ما هو طريق الغابة في الجبل؟
يعني أن تحتكّ بك أغصان الأشجار خلال المسير فتمزّق جسدك، وأن تسير في طريق يبلغ عرضه عشرين سنتمتراً تكاد لا تستطيع أن تضع فيه قدميك، ولا يقف الأمر عند ضيق الطريق، فالحجارة والتراب والطريق الوعر يكاد ينزلق بك في أي لحظة إن لم تكن قدماك ثابتة وتتمتع بلياقة جسدية تحميك من الانزلاق، وأحياناً يجبرك الجبل على المسير في طريق مرتفع لا مناص من تسلقه وكأنك من هواة تسلق الجبال، تبلغ في غالب الأحيان زاوية ارتفاع الطريق 75 درجة، أي أنه شبه عمودي، فهل من متخيل لهذا التسلق وما تحت قدميه قد ينهار في أي لحظة فيهوي إلى وادٍ أو يسقط على حجر مسنن أو شجرة مقصوصة فيصبح في عداد الموتى! .. أو تخيل أنك أحياناً تسلك طريقاً شديد الانحدار يجعلك تسقط على وجهك، والله أعلم ما يصيبك!
هذا حال الطريق بالنسبة للرجال الذين لا يحملون شيئا، ولكن الغريب العجيب، المؤلم المبكي، أننا رأينا في طريقنا عائلات تسلك هذا الطريق نساءً و رجالاً و أطفالاً و شيوخاً، يحملون أمتعتهم وربما بلغ وزن المتاع على النساء 30 كيلو وأكثر ، تحمله المرأة في هذا الطريق لمدة ساعة، والمعتاد أن رجال هذه الأيام لا يستطيعون حمل هذا الوزن في طريق مستو سهل..
تنظر الى عيون النساء فماذا تتكلم و ماذا تتحدث !!! يعجز اللسان عن الوصف .. إن وصفت المنظر بالمأساوي فالأحرى أن تصف كلمة مأساة بهذا المنظر، لله دركنّ خنساوات سوريا.

بعد مسير الساعة الشاقّ وصلنا إلى ما تسمى قرية اليمضية، فيها مشفى ميداني يشبه كل شئ إلا المشفى ، فيه أسرّة وأدوية وفيه غرفة دُهنت ولبست جُدرانها بالسيراميك، هكذا اشترط المانحون لتكون غرفة عمليات، وما زالوا ينتظرون من شهور أن تجهّز ، فقد يُطلب من إدارة المشفى أن يدهنوا ويمسحوا ويلبسوا ليتجهزوا لاستقبال أجهزة العمليات وما زالوا بالانتظار، هو انشغال بالتفاصيل عن الأمور المهمة، إضافة إلى أن الكادر الطبي لا يجد قوت يومه .

تسلك طريق العزّ و الكرامة، الطريق المحرر بالكامل الممتد من هذه الحدود حتى تصل إلى سلمى أجمل مدن سوريا، تمر بالعديد من القرى في الطريق، لكنك لا ترى أثراً للحياة، نعم ترى المنازل و ترى آثار القذائف، ولكنك لا ترى إنساناً في الطريق إلا بعض المجاهدين الذين تمرّ بهم.  في الطريق ترى بساتين التفاح الرائعة في موسمها الماضي، لكنها اليوم بائسة، الثمار ما زالت في الأشجار ولم تجد من يقطفها، وبعضها ملّ الانتظار ففضّل السقوط فلعل سقوطها يذكر العالم باكتشاف الإنسانية كما اكتشفت الجاذبية، وإن أحببت أن تفعل خيراً وتقطف هذه الثمار، ستجدها ملئت دوداً لأنها لم تجد من يعتني بها،فالناس شُغِلت بالجهاد و النزوح هرباً من براميل الموت، فحال الجبل يقول "الرزق للدود" .

وصلت القافلة الإغاثية التي كان متوقعاً أن تكون كافية لسكان الجبل الموجودين نظراً لقلّتهم وانعدام الحركة في الجبل، باشرنا التوزيع، ولكن المفاجأة كانت أن الجبل مايزال فيه الكثير من السكان يرفضون الخروج ليواجهوا مشروع تهجيرهم بهدف إقامة دولة العلويين، مايزال أهل الجبل صامدين رغم القصف والدمار وانقطاع الغذاء، لسان حالهم: لا لا لن نستسلم ولن نخرج من أرضنا، لكن هل هناك من يدعم صمودنا؟ نحن صامدون؛ لكننا لا نستطيع أن نشاهد أطفالنا يموتون جوعاً، اكفوا أطفالنا ونحن نكفي المسلمين شر هؤلاء المجرمين!!.


اتجهنا من الجبل بسرعة الى منطقة بيسون الحدودية مع تركيا فقد بلغَنا أنها تحوي المئات من النازحين العالقين الذين لا يستطيعون دخول تركيا، ذهبنا في طريق أشبه بالجحيم، بل قد حوله المجرمون إلى جحيم، طريق غير معبد كله حُفَر من آثار القذائف والبراميل ،وأجزاء طويلة منه ما تزال حجارة تعترض الطريق أو تراب، تسير السيارة عليه كالسلحفاة، وتهتز بشدة لدرجة أن عظامنا قد تداخلت ببعضها، هذا ونحن أصحاء معافون ، فكيف بالنساء والجرحى!!
إن الجريح يموت من صعوبة الطريق قبل أن يموت من نزفه ومرضه .

وصلنا بعد مسير طويل إلى ببيسون، تقع في قمم الجبال، منظر مهيب رائع، جنة من جنان الله في الأرض .تشاهد تلك البييوت التي بناها الإنسان القديم في العصر الحجري، يا لروعتها، ويا لعظمة سوريا ما زالت تحتفظ بتلك الآثار.
هذا حالها لو أنك رأيتها تخلو من الناس، لكن الواقع يحكي قصة أخرى، فالناس هربت من جبل الأكراد وتقطعت بها السبل في هذه النقطة، فلا تركيا أدخلتهم، ولا القصف توقف عنهم، فأُجبِروا على أن يتعايشوا مع الأرض العراء، فصنعوا بيوتاً من أغصان الأشجار، وربطوا جذوعها من ملابسهم التي مزقوها ليثبتوا بناء البيت، ثم كسَوا بيوتهم بالأوراق لتواري عوراتهم، هذا كل ما ملكوا .. فلا فراش ولا غطاء ولا لباس.
تفطّن لهؤلاء المساكين إخوتهم في الدين وفي المأساة؛ اللاجئون في المخيمات التركية اقتطعوا من طعامهم وشرابهم فأرسلوه لإخوانهم في بيسون، فكان حصة أحدهم كسرة خبز وقرص جبنة ورشفة ماء، هذه وجبتهم لليوم الكامل، ناهيك عن أنهم يعيشون هنا منذ شهر وأكثر بلا دورات مياه ولا أطباء، فالمرض يعشعش بينهم، والموت يتربص بهم.

جاءهم من إخوانهم في الجبل طحين اقتسموه بينهم، ولكنّ هؤلاء القوم لم يفكر أحدهم يوماً بأن يضطر للخبز، نعم النساء هنا لا تعرف كيف تخبز، اجتهدن ... لكن كان خبزهن أقرب إلى العجين من الخبز. شاهدت المأساة وعايشتها، فطول الرحلة لم أنطق بكلمة من هَول المصيبة وصدمتها، واكتفيت بالتحدث لامرأة  أعلّمها كيف تخبز بشكل أفضل كما شاهدت أمي تفعل من قبل .

سؤال الناس هناك: أين المسلمون؟! نعلم أنهم يشاهدوننا ويسمعون عنّا، لكن هل سيكتفون بدعوة أو دمعة عابرة!!

 

 

* حسين النصيرات | المنسق الإغاثي لهيئة الشام الإسلامية على الحدود التركية السورية

المقالات المنشورة هي لأعضاء الهيئة، وتعبر عن آراء كاتبيها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي الهيئة
pearlsea | libya
الثلاثاء 14 ذو الحجة 1433 هـ الموافق 30 أكتوبر 2012 م
الله يفرج عليكم يارب . وينصركم قريبا .