الخميس 9 شوّال 1445 هـ الموافق 18 أبريل 2024 م
خنساء سورية "أم داود الشيخ"
الكاتب : محمد علوش
الأحد 16 جمادى الأول 1433 هـ الموافق 8 أبريل 2012 م
عدد الزيارات : 21707

أم داود امرأة بألف رجل، كبيرة في العمر، جليلة في القدر، مؤمنة بربها، صابرة على قدره، رابطة الجأش، ثابتة الفؤاد، لا تستطيع الكلمات احتواء المشاعر والمعاني التي تغمرك عندما تلقاها، مبتسمة بشوشة، لا أبالغ إن قلت أن مدى إيمان هذه المرأة بربها يشبه إيمان الصحابيات الجليلات كأم سلمة والخنساء مع فارق الصحبة لهن رضي الله عنهن ورضي عنها وأثابها بما بذلت أعالي الجنان .

 

 

تسارعت بنا السيارة بين السهول منطلقة نحو مخيمات اللاجئين السوريين في (بخشين) بإنطاكيا في مناظر تسلب الفؤاد بروعتها فسبحان خالقها خضرة وغابات وجبال متوجة بالعمائم البيضاء .. في منظر يواسي النفس لولا سماع أعداد الشهداء تتزايد ورنات الهاتف التي تحمل لنا أخبار الحرب شهيدان في قرية المزرعة وقصف جوي على ريف حماة وريف حمص وتتزايد أعداد الشهداء حيث بلغ يومها فوق المائة شهيد قبل أذان الظهر واقتحامات واعتقالات في ريف دمشق أخبار وأخبار لا تترك تتأمل روعة ما ترى .. وهاهي السيارة تحط بنا عند أبواب المخيم ونستأذن للدخول فيرانا أطفال المخيم وترى على وجوههم بؤس التشرد والتهجير فقد مروا بأشهر من التغريبة طويلة.. فيسرعون بعد أن رأوا بعض الألعاب التي حملناها لهم فيطير النبأ بين أطفال المخيم البائسين وصلت الألعاب فيتسارعون لالتقاطها والبعض منهم حفاة وكلهم أدب مهللين فرحين فرحة الكبار عندما تعلن الأنباء سقوط النظام بإذن الله.

ويخرج إلينا الحاج محمد (وهو زوج أخت الخنساء) رجل في الخامسة والستين من عمره شيخ جليل لم يترك الدهر له شعرة سوداء في رأسه ولحيته يقبل علينا مهللا مرحبا مبتسما رغم كل الألم والجراح التي جرحت قلبه ومزقت فؤاده فقد سجنه حافظ أسد ثلاثا وعشرين سنة أخذت منه زهرة عمره دون ذنب ارتكبه ومرت عليه صروف الدهر كشأن هذه العائلة المؤمنة الصابرة المحتسبة التي لم تبخل بالشهداء تلو الشهداء والمعتقلين زمن الأب وزمن الابن فقد اكتوت ببطش النظام وعاقب أهلهم بالفقر والتهميش والتجهيل فهاهو الحاج مرقع الثوب بائس القسمات يعيش مع ستين فردا من أبناء أسرته مشردين مهجرين من بطش نظام الأسد الطائفي بعد أن قتل منهم أكثر من عشرة شهداء فلله درها من عائلة وأكرم بها من أسرة مجاهدة مقاومة صابرة مصرة على نيل حريتها وحرية بلدها مهما كلفها ذلك من ثمن.
ويأخذنا أبو محمد إلى خيمته .. ونمر في الطريق على خيام البؤس ويطل ساكنوها علينا يردون التحية مرحبين وكأن وجوههم تحكي قصص الظلم وتبحث عمن يسمعها ويواسيها ويخفف عن جراحها وها هي الخنساء تخرج مكبرة من خيمتها مرحبة مهللة بنا دون سابق معرفة بنا مبتسمة رغم أنين الألم وبؤس التهجير وبدأت تسرد علينا ما لاقت من الظلم والبطش فقد قتل لها حافظ أسد زوجها وابنها الأكبر وسجن الثاني مؤبدا ثلاثا وعشرين سنة وبقيت لتربي الثلاثة الباقين وتحسن تربيتهن على الإيمان بالله والحفاظ على الدين تقول لنا : (يا أولادي أهم شيء في هذه الحياة هو العقيدة الصحيحة والإيمان بالله .. ) لا يفتؤ لسانها من الدعاء لله بالنصر وتسرد علينا قصة الشهيد الثالث من أبنائها وقصة الشهداء من أحفادها وخاصة منهم الشاب الذي كان خاطبا ولما نودي للجهاد لبى النداء قالت له أمه يا ولدي أما يكفي هذه العائلة ما قدمته من الشهداء فيأبى ويصر على استكمال الطريق والذهاب لمقارعة الطغاة الظالمين وحماية المستضعفين من ظلم نظام طائفي فاجر بغيض يقول يا أمي لا أريد سوى الجنة دعيني أذهب! ولما أعيتها الحيلة لجأت إلى جدته الخنساء فقالت إن كنت يا ولدي تريدها بصدق فستنالها. قالت لنا أم داود: يا ولدي طلب الجنة بصدق فنال الشهادة من أول لقاء فزففناه إلى الجنة .. لم أتمالك دموعي وهي تسرد علينا هذا الكلام برضى عجيب بقضاء الله وقدره . وتقص لنا بعدها قصص أبنائها المجاهدين الآخرين وهنا تغلبها عاطفة الأمومة قائلة يا ولدي قدمنا الشهداء تلو الشهداء وننتظر الفرحة بنصر الله القريب ثم أخبرتنا عن نشاطها في رعاية الأيتام وأسر الشهداء في الداخل وتوزيعها للكتب الإرشادية والمصاحف ومدى حاجة الناس للرجوع إلى ربهم والمحافظة على الصلاة ثم تركانهم لنصلي في مسجد المخيم وصلت مع أم عمرو زوجتي جماعة مع بعض نساء المخيم.

حضرنا الصلاة في المخيم ولا تعلم بعدها سرور الناس بهذه الزيارة وحفاوتهم بنا وببعض الكتيبات والمصاحف التي حملناها لهم .. ثم طلبنا زيارة المرضى الموجودين في المخيم .. ومر بنا الحاج على بعض الخيام التي يسكنونها .. الله أكبر يا مسلمون الله أكبر يا عرب أعجزت ميزانياتكم عن علاج هؤلاء الذين جرحوا في الدفاع عنكم ضد المشروع الصفوي اليهودي في المنطقة أعجزت مستشفياتكم الفارهة عن استقبال هذه الأعداد البسيطة وانظروا إلى الصور لتروا حجم المأساة ومعاناة التي يعانونها، يهمس بي أحدهم يقول أنا صاحب معمل رخام وحالتي المادية ممتازة ولله الحمد وأصبت في فخذي وتهشم عظم الفخذ فها أنا قعيد الخيمة منذ أشهر أطلب فقط أن أعالج على حسابي في دول الخليج أو أوربة فالأطباء هنا من نفس طائفة النظام يتقصدون إهمالنا وكأنهم يكملون ما بدأه النظام نحن لا نريد صدقة من أحد فالنظام سرق جواز سفري لذلك أنا هنا لاجئ !! وآخر كادت الغرغرينا أن تقطع رجله من الفخذ من الإهمال وآخر يعرج بسبب سوء العلاج أهكذا يا أحبابنا الأتراك يكون حسن الجوار وليس على المحسنين من سبيل فقط نريد منكم أن تسمحوا لنا بعلاج جرحانا !! قال لنا مدير الهلال الأحمر السوري بحماة الذي هرب من بطش النظام بسبب مساعدته جرحى الثورة كان النظام يؤكد علينا عدم مساعدة أي جريح إلا بعد التبليغ عنه وأن المساعدات الاغاثية والطبية تصرف لشبيحة النظام فقط وكان يخالف هذه الأوامر حتى انكشف أمره وفر هارباً قال: سألتني وكالات الأنباء ممن تلقيتم المساعدات قال استحييت أن أذكر أن النظام هو من ساعدنا دون أن يدري وأن الشعب السوري يذبح ولا يجد ضماداً لجراحه!
ونرجع إلى خيمة الخنساء لنودعها فرحة مسرورة وكأنما أهدينا لها الحرية المنشودة طالبة منا تكرار الزيارة لندخل الفرحة على قلوب البائسين..

لله درك يا أم داود ما أعظم بلاءك وابتلاءك .. كم أنت عظيمة، كم يستصغر المرء نفسه أمام تلك القامات، هكذا هن نساؤنا المؤمنات .. ما أعظم إيمانك وصبرك .. إنه إيمان العجائز الذي كان علماؤنا يسألون الله أن يرزقهم إياه .. نحسبك كذلك ولا نزكي على الله أحدا ..

المقالات المنشورة هي لأعضاء الهيئة، وتعبر عن آراء كاتبيها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي الهيئة